مداخلتة الكاتب مرزوق الحلبي في مؤتمر عن اللغة العربية وبها في معهد فان لير ـ 8-9/11/2012
"يا لغتي ساعديني على الاقتباس لأحتضن الكون"
"يا لغتي ساعديني على الاختلاف لكي أبلغَ الائتلاف"
محمود درويش
من قصيدة منفى 1 ـ مجموعة كزهر اللوز أو أبعد
واقتباس آخر من درويش ومن المجموعة الشعرية ذاتها
في السفر الحرّ بين الثقافات
قد يجد الباحثون عن الجوهر البشري
مقاعد كافية للجميع
هنا هامش يتقدم. أو مركز يتراجع
لا الشرقُ شرقٌ تماما
ولا الغربُ غربٌ تماما
لأن الهويةَ مفتوحةٌ للتعددِ لا قلعةٌ أو خنادق
لعنوان مداخلتي أكثرُ من معنى ووجه. أما بدايته فكانت في سؤال ألحّ به زميل خاطبني: "كيف تستطيع أن تقول باللغة العبرية للجمهور اليهودي ما
• مداخلتي في مؤتمر عن اللغة العربية وبها في معهد فان لير ـ 8-9/11/2012
تقوله للجمهور العربي باللغة العربية؟". وأردف أنه لم يستطع حتى الآن وهو المحاضر في الجامعة أن يفعل ذلك ولو مرة واحدة. وأوضح أنه عندما كان ينتقل إلى التحدث بالعبرية كان يبدو لنفسه غيرَه، مبتورا أو غيرَ ما هو عليه بلغته وغيرَ ما كان يريد!
لم يفاجئني السؤال بحدّ ذاته وإنما فاجأني أن يأتي منه. سألني ولا زلت أذكر نظرته وتقاسيم وجهه الباحث عن إجابة.
وجه آخر هو ذاك التحدي الماثل أمامي كعربي في إسرائيل يلفي نفسه وجها لوجه أمام ثنائية لغوية. ثنايئة، تبدأ من الضرورة، من الحاجة إلى إجادة لغة الثقافة المهيمنة بوصفها لغة الحيز ولغة المعاملات اليومية ولغة العيش إلى حد ما. حاجة تُنتج منظومات التبعية للغة المهيمنة وعليّ أن أطوّر تقنياتي ومهاراتي لحمل أعبائها. علاقة غير حبّية لأنها غير مؤسسةٍ على الرضى . علاقة قسرية تأتينا من السيادة العبرية ومن احتكار هذه السيادة للعنف.
علاقة تبعية متحولة قد تتعسّر وقد تتيسّر. قد تثقلُ أو تخفّ. لكنها تبعية!
يحدث أن تتسرّب اللغة المهيمنة من الحيز العام إلى الحيز الخاص الذي من المفروض أن يكون عربيا أو بالعربية. ويحدث أن تتمدد في مساحات حياتنا بعناد كعرق النجيل وفي لغتنا التي تفقد صورتها ومعناها بفعل ضجيج اللغة المهيمنة فوق جسدها. مباني الإقصاء في الحيز العام تتناسخ في الداخل أيضا. هيمنة في الحيز العام تتسرب إلى الحيز الخاص وتخدش الحواس والبديهة.
علاقة قد تبدأ من التبعية الصماء إلى تبعية مضبوطة تكون فيها الحدود واضحة بين لغة عبرية مهيمنة وسيدة في الحيز العام وبين لغة عربية حاضرة وسيدة في الحيز الخاص، سيدة. لغة صالحة للعلاقة مع الآخر ولغة صالحة للعلاقة مع الذات. لغة الاضطرار والضرورة ولغة الإرادة والاختيار.
لغة تأتينا بإرادتها هي، ولغة نأتيها بإرادتنا نحن.
توتّر وجودي دائم. تسير دالتُه صعودا أو هبوطا. واللغة المهيمنةُ إذ لم تكن حاضرة فلها ظلال حاضرة وصدى يتردّد في لغتنا، في حبرنا ودواتنا.
هي الراغبة في الدخول ونحن العاجزون عن سدّ الباب لنحفظ من أذاها ما تبقى لنا من جغرافيا ولتظلّ لنا فسحةٌ من حياة محررة من وطأة قدميها. هي الساعية إلى السيطرة ونحن الساعون إلى الإفلات من قواعدها وأفعالها وأسمائها ونحوها وصرفها.
نشقى كي نحمي أنفسنا منها ومن عُسفها.
نشقى كي نحمي لغتَنا نحن.
نشقى كي نكون نحن.
وقد لا يشفع لنا الشقاء فلا نفوزُ في السباق.
توتّر موجع. لأن الثنائية اللغوية في مثل هذه الحالة تُفضي بنا إلى التنازل المسبق عن لغتنا في كل مرة نلتقي فيها الآخرَ ولغتَه. لأننا نُجيد اللغتين بقوة الضرورة سيُطلب منّا في كل مرة أن نتحدّث بالعبرية تلك اللغة المهيمنة التي تأتينا عنوة. سيُعفي هو نفسه من عناء إجادة العربية وسنتكرّم عليه نحن بإجادتنا العبرية ويكون لقاء ويكون تعايش في رحاب اللغة الأخرى!
لأننا نعرف لغته فهو حرّ من لغتنا، لأن لغتَه تُمسك بنا من حاجتنا فما حاجتُه هو بلغتنا؟
لأننا نأتيه مختزلين مهضومين مغسولين بلغته هو فما حاجته إلى جهد لاستيعابنا بلغتنا نحن! هم المهيمنون أحرار على الدوام فيما يعرفون ولا يعرفون، في اختيار ما يريدون أن يعرفوه وما لا يريدون. أما نحن فمضطرون دائما للمعرفة. كل ما نعرفه، نعرفة لحاجة أو قسرا وكل ما لا نعرفه، لحاجة أو من قهر.
كل ما يعرفه من لغتنا ومنّا لغرض السيطرة أو إدامته. وكل ما نعرفه من لغته فَلِدَرء شرّ الحراس ورجال الأمن. سيتجول في لغتنا كأنه يستكشفها وسنمكث في لغته بقوة الحاجة لنضلّله!
هو حرّ من معرفة ثقافتنا ونحن مضطرون. هو حرّ ألا يُتقن نُطق أسمائنا بشكل صحيح. وما حاجته إلى التدقيق ما دمنا في نظره واحدا وإن كثرنا؟ هو حرّ من رؤية الاختلاف بيننا. وما حاجته إلى ذلك ما دمنا في نظره خطأ واحدا في مشروعه؟
توتّر مُوجع درّبت قلبي على احتوائه. درّبت حواسي على التعايش معه. ودرّبت لساني على خطٍ موازٍ أن يشي بي في كل لغة مُتاحة لي. درّبت نفسي على أن أكون أنا لا أحد غيري. في كل مكان تطأه قدماي بوصف اللغات أمكنة.
وجع قادني مفتوحَ العينين إلى التحدي، أن أقطع وجعي إلى الجهة الأخرى لأسهم بقسطي في تخليص اللغة العبرية من نزعتها إلى الهيمنة ومن عادة الاستحواذ.
وجع أفضي بي إلى الإدراك بأن الخلاصَ لا يكون بالاحتماء في معارجَ لغتي أحفر الخنادق وأستنفر المفردات.
وجع أفضى بي إلى حمل لغتي وثقافتي والسفر بهما وفيهما إلى لغته واثقا من أنني لا أقلّ عنه حروفًا ودلالات.
ولا أقِلّ عنه هويةً وتاريخًا وروايةً.
أدركت أن الخلاص لا يكون إلا بالحضور التام في لغته هو.
أن أكون عربيا بالعبرية من رغبة في الإمساك بالنار، لا من حاجة ولا من
ضرورة ولا من تبعية.
عربي بكامل قامته وذكرياته وأسمائه.
أنا مكتوب بحروفه هو. حاضر في كلام. آتي وأذهب ملء رغبتي.
أقول كلّ ما على قلبي وأصوّب كلامي إلى قلبه.
وأقرأ شعري، وأسردُ قصّتي
وأبكي وأضحكُ وأموتُ من الضحك في لغته.
عربي بالعبرية. عربي في العبرية.
فيكتشفُ أننا متقاربان أكثر مما تقوله لغته
أولا، لأن شمسا واحدة تجفف ملابسنا.
ثانيا، لأننا، دون سابق معرفة بيننا، نحبّ التفرّس في وجوه أطفالنا وهم نيام.
ثالثا، لأننا لا ندوس الخبز إذا ما وجدناه مرميا على الأرض
رابعا، لأننا نُسرّ لمشهد عروسين يلتقطان صور فرحهما على شاطئ يافا
خامسا، لأن كلانا يخاف كمين الشرطة على شارع القدس.
سادسا، أنا وهو نلتقي من مرة لمرة في مطعم الرضى
لقد اكتشف اننا قريبان أكثر مما قالته لغتُه.
كلما اقتربنا صارت العبرية على لساني كالعربية. أنطق بها كأنها لي وليست له.
حرّ فيها.
أشطب منها كل الأفعال العدائية وأخلّصها من توجسها وعُقدة خوفها المزمنة.
وأخلّصها من غربتها هي في هذا المكان،
كي تذهب غربتي أنا إلى غير رجعة.
أتجاوز وجعي كل يوم فهل هو قادر على تجاوز حدود نزعته إلى السيطرة؟
فتحت له بوابات لغتي وهدمت السور، فهل هو مستعدّ للدخول مجرّدا من كل أدوات الاستحواذ؟
وأُبقي السؤالَ شمعة على باب بيته!
وأبقي السؤال حذوة حصان على باب بيتي.