عند التطرّق إلى العالم العربي من أية زاوية كانت، اجتماعية أو ثقافية أو سياسية أو اقتصادية، فلا بدّ من التأكيد على موضوع المرأة، تلك "الرئة المعطلة" كما سمّاها الشيخ خالد محمد خالد في منتصف القرن العشرين. بعبارة وجيزة، يتنفّس العالم العربي برئة واحدة وهي غير معافاة بالتمام والكمال. إنه لمن العجيب الغريب والمؤلم حقّاً أن نجد حتى في القرن الحادي والعشرين مجتمعا إنسانيا كالمجتمع العربي، يقبل أن يكون نصفه تقريبا مهمشّا كليّاً إن لم يكن غائبا وقاصرا ودونيا. هذه الحقيقة تدخُل في لبّ ماهية وضعية المجتمعات العربية كافةً مع فوارق طفيفة هنا وهناك في شتّى الأقطار العربية. للأسف الشديد، ما زال دور المرأة العربية في الحياة يتلخّص ويتقزّم في الغالب الأعمّ في كونها زوجة وأمّ خصبة وناقلة للتقاليد، ومن الضروري والهام جدا التركيز على دور المرأة كمربية وعاملة منتجة، وهذا يعني بالطبع إعادة النظر جذريا وشموليا بقضية القضايا: التربية العلمية الخلاقة والتفكير الحرّ الصريح والبنّاء.
كان الفيلسوف الإغريقي أفلاطون (Πλάτων = واسع الأفق، ٤٢٧-٣٤٧ ق.م.) قد نادى باستغلال طاقة المرأة في الانتاج. بدون مثل هذه العملية التربوية بعيدة المدى همّا وزمنا، فإن تلك الذهنية المبنية على الرياء والكذب والازدواجية، ستبقى سيّدة الموقف في المجتمعات العربية. من الظواهر الشائعة في العالم العربي وجود حوالي ٥٤٪ من الفتيات اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين الخامسة عشرة والتاسعة عشرة متزوجات. بكلمات بسيطة وبالعربي الفصيح، كما يقال، معنى ذلك أن نصف أمّهات العرب، ومن المفروض أن يصبحن مربيات الأجيال الصاعدة، بناة المستقبل، هنّ في الواقع شبه أميّات إن لم يكنّ أميّات بالكامل. وما زالت المرأة العربية من حيث حقوقُ الانسان تأتي في المرتبة الأخيرة ضمن كافة نساء العالم الثالث. ويشار إلى أن نسبة النساء العربيات العاملات بأجر هي، على ما يبدو، أدنى نسبة في العالم، في حين أن معدّل الولادات لديهن هو الأعلى. مما لا يخفى على المطلعين على التاريخ العربي أن المرأة في صدر الإسلام مثلا كانت تلعب دورا هاما بجانب الرجل في السلم وفي الحرب فسمية أمّ عمّار بن ياسر، المسلمة السابعة، كانت أول شهيدة في الإسلام، وأمّ كلثوم كانت أول امرأة هاجرت مع الرسول إلى المدينة، وصفية بنت عبد المطلب شاركت في معركة الخندق كما شاركت نسيبة بنت كعب في معركة أُحُد، وأم المؤمنين، عائشة، طلبت من النبي محمد الجهاد فأجابها الحجّ هو جهادُك. من اللافت للنظر حقاً أنّ الشرع الديني لا يتطرّق لعمر معين لزواج الانثى وذلك بناء على سيرة النبي محمد، الذي تزوج عائشة وهي في السادسة من عمرها، ودخل فيها وهي في التاسعة. من الملاحظ أنّ الفلسفة العربية الإسلامية في القرون الوسطى، لا سيما تلك السياسية، قد اعتمدت على "الجمهورية" لأفلاطون في حين أن الفلسفة المسيحية قد ارتكزت على "السياسة" لأرسطو ولم تعرف "الجمهورية" حتى عصر النهضة الأوروبية (renaissance). وعليه فإن الارتكاز على مصادرَ إغريقية مختلفة، قد أثرت جذريا على النظرة إلى المرأة في الإسلام، ومن ثم اليهودية من جهة وفي المسيحية من جهة أخرى. ومن الأمثال الجلية لتأثير موقف أفلاطون الداعي إلى المساواة بين الذكر والأنثى ما يجده المطلع في "آراء أهل المدينة الفاضلة" لأبي نصر محمد الفارابي (٨٧٣-٩٥٠) الملقب بـ "المعلم الثاني" بعد أرسطو. وفي كتابه هذا يحذو الفارابي حذو أستاذه أفلاطون في انحصار الفرق بين الرجل والمرأة في الجانب البيولوجي فحسب، أما في المجالات الأخرى مثل القدرة العقلية فالجنسان متساويان. لا ريب البتة أن رأيا كهذا في القرون الوسطى كان راديكاليا إلى أبعد الحدود ومنقطع النظير. وكان الفيلسوف العربي أبو الوليد محمد بن أحمد ابن رشد المعروف في الغرب بالاسم (Avérroès) (١١٢٦-١١٩٨) قد تعرض لهذه المساواة في شرحة لجمهورية أفلاطون وعبّر عن رأيه القائل بأن الفاقة التي كانت تصيب الدول في عصره ناتجةٌ عن غياب المرأة في ميدان العمل والانتاج، وما أقرب ذلك الأمس البعيد بالحاضر القريب في بلاد العرب.
في معظم البلدان الإسلامية يوجد تحديد لسن الزواج لدى الذكور، سن الثامنة عشرة في حين أن الوضع بالنسبة للفتيات مختلف، ففي تونس والمغرب والجزائر الحدّ الأدنى هو الخامسة عشرة، وفي مصر السادسة عشرة وفي سوريا والأردن السابعة عشرة. ويشار إلى أن هذا التحديد العمري، لا يعني بأن الدول المعنية تعمل جاهدة في ترشيده وتعميمه وتطبيقه. بعبارة وجيزة، وهذا لبّ الموضوع ومكمن الداء العضال، القانون موجود حبر على ورق في جلّ الحالات، أما تطبيقه فحدّث ولا حرج. في النصف الآخر، القوّام على النساء، ما زال هو أيضا بعيدا جدّا عن التحرر الفكري والاجتماعي المطلوب وهكذا تتفاقم المعضلة وتتأزّم ولا مندوحة من تحرير ذاك وتلك معا إذا ما أريد لهذا المجتمع أن يستعد للعب دور فعّال في الحضارة العالمية التي لا تعرف الحدود في عصر العولمة القاسي هذا. حين كُتب للإسلام النصر والغلبة في شبه جزيرة العرب في القرن السابع للميلاد، وقبل انتشاره الواسع من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، تمخّضت هذه العقيدة الجديدة عن إصلاحات تصبّ في مجملها ولبّها في وضعية المرأة. ففي الجاهلية، كما هو معروف، كانت المرأة بمثابة السلعة تشترى وتباع ولا تقييد لعدد الزوجات وللزوج حرية الطلاق متى شاء وأخيرا وليس آخرآ كانت ظاهرة وأد البنات الرضّع سائدة ذوداً عما سمّي بالسمعة الطيبة والشرف. وفي سورة النساء المكية المعروفة أيضا بعنوان "سورة النساء الكبرى" الكثير من الأحكام الشرعية، كما في السور المدنية، وتعالج هذه السورة ،كما يدل اسمها على ذلك، في آياتها الستّ والسبعين بعد المائة جوانبَ ذات بال بشأن المرأة والحياة الاجتماعية. أما "سورة النساء الصغرى" فهي سورة "الطلاق" ومن المعروف أنه حيث ما ذكر "يأيّها الذين آمنوا" فالسورة مدنية وأما العبارة "يأيّها الناس"؛ فقد وردت في السور المكّية والمدنية على حدّ سواء. وهناك من يرى في قضية تعدد الزوجات انتقاصاً لحقّ المرأة إذ أنه من قبيل المستحيلات أن يعدل الزوج بين أكثرَ من زوجة وقد ورد في القرآن الكريم "وإن خِفتم ألا تُقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طابَ لكم منَ النساء مثنى وثُلاثَ ورُباعَ فإن خِفْتُم ألا تَعْدِلوا فواحدةً أو ما ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا" (النساء، الآية ٣ وينظر الآيتين ١٢٩، ١٣٥ وسورة المائدة آية ٨ ). وقد قالت عائشة، أم المؤمنين، إن الآية قد نزلت في أولياء اليتامى الذين يتزوجون من اليتيمات الحسناوات اللواتي تحت كنفهم دون دفع المهر المناسب. والمعنى حسب تفسير الطبري مثلا هو، إذا كان هناك شك وخوف في عدم توخي العدل في اليتيمات فينبغي الاحتراز وتوخي العدل بين الزوجات وإلا فلا بد من الاقتصار على زوجة واحدة أو نكاح الإماء لملك اليمين. بعبارة أخرى، ترمي هذه الآية إلى إقامة القسط والعدل من جانب الزوج إزاء زوجته و"ذلك أدنى ألا تَعولوا" بمعنى أن الاكتفاء بزوجة واحدة أو على ملك اليمين أقرب إلى العدل وعدم الظلم والجور بحق الزوجات. والفعل المجرّد "عول" في الآية المذكورة قريب في معناه من الفعل "غول" وهو كما في اللغة العبرية، في لغة العهد القديم وفي لغة المشناة أي التوراة الشفوية، يعنى الظلم والجور1. هنالك من يذهب إلى أن معنى الآية الآنفة هو، في حالة وجود أي خطر أو شك في أن الزوج سيستولي على مال اليتيمات بسبب كثرة حاجاته لكثرة بني بيته فعندها لا تتزوجوا إلا اثنتين أو ثلاثا أو أربعا وقيل إنّ الرجل آنذاك كان يتزوج العشر من النساء أو أكثر. وإذا صح هذا التفسير فلا مانع هنا من الاقتران بأكثرَ من أربع نساء كما ورد في الشرع الإسلامي استنادا على هذه الآية. ويبدو أن الرقم أربعة جاء للدلالة على القلة إذ أن أكل مال اليتامى حرام ولدرء ذلك لا بدّ من الزواج بواحدة أو الزواج من الجاريات. كما وهناك من يذهب إلى أن المقصود هنا أنهم كانوا يتزوجون من اليتيمات بغية الاستيلاء على أموالهن إذا كنّ ثريّات أو بسبب جمالهن وتعددت الزوجات لدرجة بات معها من المستحيل إعالتهن وتلبية حاجياتهن الحياتية ولذلك ورد التحذير بعدم الإكثار منهن. وهناك كالزمخشري من يرى أن استخدام اسم الموصول "ما" بدلا من "مَنْ" لأن الإناث من العقلاء بمنزلة غير العقلاء مثل "وما ملكت أيمانكم". والواو في "مثنى وثلاث ورباع" ليست للعطف أي تسع نساء بل للتخيير بين الاثنتين والثلاث والأربع. قد يقال، إن ظاهرة تعدد الزوجات، كانت في فترة تاريخية معينة ضرورية في ظروف معينة للحفاظ على التوازن في المجتمع بين الجنسين. ومن الأمثلة الجيدة على اختلال التوازن بين الذكور والإناث ما خلفته الحرب العالمية الثانية في ألمانيا حيث بلغ تعداد الإناث أضعاف عدد الذكور. ويرى الكثير من المسلمين أن مسألة تعدد الزوجات أفضل من المخادنة أو الزواج العرفي في الغرب. ورد أيضا في نفس السورة الآية ٤٣ "الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضَهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظاتٌ للغيب بما حَفِظ الله والتي تخافون نُشوزَهنّ فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطَعْنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا إنّ الله كان عليّا كبيرا". وهذا معناه، أن الرجال هم المفضلون لرجاحة عقلهم وهم ذوو الأمر والنهي والإرشاد والإنفاق، همُ الولاة والنساء الرعية صنفان، صالحات مطيعات وأخريات عاصيات متمردات، ويتحتم على الزوج إصلاح الاعوجاج بالكلمة الحسنة والموعظة فالهجران فالضرب وفي نهاية المطاف الله هو الولي وهو العلي القدير. والضرب كما ورد في الحديث أحد سبل إصلاح نشوز المرأة وعصيانها وهذا أخف وطأةً من الطلاق وكما قيل "وعند ذكر العمى يُستحسن العَوَر". وهناك من أضاف في التفسير أن المقصود من الضرب ذلك الضرب غير المبرّح والله أعلم. بخصوص مسألة تعدّد الزوجات، يمكن القول إنه وفق الشرع السني التقليدي يحقّ للرجل أن يتزوج حتى أربع نساء وبعض الفرق الشيعية تسمح لمؤمنيها ما يرغبون فيه من الزوجات المؤقتة ولا نعني هنا المحظيات. وعلى ضوء بعض الاحصائيات، فإن حوالي ١٠٪ من الزيجات في العالم العربي تعددية. وفي العصر الراهن أضحى تعدد الزوجات ظاهرة طبقية، فالأغنياء قادرون على ذلك أما الفقراء فيزداد فقرهم والأثرياء يزداد غناهم. ومن الجلي أن انحسار ظاهرة التعددية جاء نتيجة مباشرة للحالة المادية أكثر منه نتيجة لتشريعات إصلاحية حديثة. وفي بعض الدول العربية كلبنان ومصر والمغرب لا وجود لتحريم مباشر لتعدد الزوجات، ولكن بوسع المرأة أن تجعل الأمر غير ممكن وذلك بواسطة إدراج بند بذلك في عقد الزواج. وفي المغرب، على سبيل المثال، يكتفي القانون بالإشارة إلى وجوب معاملة الرجل لزوجاته بالعدل والمساواة ولكن لا يشرح ويفصّل ويضع المعايير الملزمة إلخ. وكان أنور السادات في مصر قد نادى، كما يتذكر البعض، مكتفيا بإعلان "الحرب ضد التعدد" وبقيت كلمات دون أية إجراءات عملية على أرض الواقع، وشتّان ما بين القول والعمل ولا بدّ من وضع آليات واضحة ومدروسة للتطبيق. إن تغيير الذهنية والموقف إزاء التحديث والتغيير في بعض العادات والتقاليد لا يتحققان إلا من الداخل، من التعليم والتثقيف المبرمج والمنفتح أمام الآخر رغم الاختلاف. إن الرأي القائل إن المرأة لا تخرج إلا لثلاث، لبيت زوجها أو لحج بيت الله الحرام أو لتدفن لا يتمشى والحياة في العصر الراهن. من الواضح أن الرجوع إلى الأصول لا يتمشى عادة مع التحديث وهو في واقع الأمر التمغرب والسؤال الكبير الذي يطرح نفسه بإلحاح هو: كيف يتمّ ذلك دون ضياع الهوية والأخلاق النبيلة في المجتمعات العربية؟ ومن البدهي القول أن استعمال منتجات الغرب العلمية من المذياع والمرناة وحتى التقنية الحديثة المتطورة في مجالات الحياة المختلفة والإنترنت الخ. كل ذلك وغيره لا يجعل من المستهلك رجلا عصريا حديثا في تفكيره ونظرته للحياة وعلاقته مع زوجته أولاً ومع الآخرين ثانياً. هذا بطبيعة الحال لا يعني بأن الغرب الحديث والمتقدم صناعيا وتقنيا لا يعاني من مشاكل وأزمات اجتماعية وأخلاقية. وكردّ لهذا الغزو التقني والثقافي الهائل والسريع، يشهد المرء انبعاثا أصوليا في العديد من الحالات حتى في صفوف الجنس اللطيف. احتلت المرأة في الجاهلية مكانة مرموقة، فكانت سرَّ سعادة الرجل ومستهل قصيدته. وكما قال المتنبي "إذا قيل شعر فالنسيب المقدم". وكان للمرأة الحق في اختيار شريك حياتها وكانت تشترك في سوق عكاظ وتنشد الشعر بجانب الرجل. ومن الأمثال العربية "خير النساء البَرْزة الحيية وشرهن الخبأة الطُّلعة" أي أحسن النساء من تختلط بالناس محافظة على عفتها وحيائها وأسوأهن تلك التي تتظاهر بالتستر إلا أنها في واقع الأمر لا تفوّت الفرصة للبصبصة على الآخرين. وقال عمرو ابن كلثوم إذا لم نحمهن فلا بقينا لشيء بعدهن ولا حيينا
من جهة أخرى لا يخلو الأدب العربي من جوانبَ سلبية إزاء المرأة، ففي كتاب الإمتاع والمـؤانسة لأبي حيان، ورد بأن أسنان الرجل اثنتان وثلاثون سنا في حين أن أسنان المرأة ثلاثون. ومن المؤلفين القدامى الذين تطرّقوا في مؤلفاتهم للمرأة يمكن الإشارة إلى الشافعي وابن الكلبي واسحق الموصلي والمدائني وابن قتيبة والجاحظ وكلهم من القرن التاسع، ثم الطبري وابو الفرج الاصبهاني من القرن العاشر، وابن منقذ والجوزي من القرن الثاني عشر. وعلى الانسان أن يختار ما يراه مناسبا ومفيدا له ولمجتمعه في الحاضر وفي المستقبل!
1 أنظر القاموس الحديث في كلمات القرآن، تفسير وبيان لفضيلة الأستاذ الشيخ حسنين محمد مخلوف مفتى الديار المصرية السابق وعضو جماعة كبار العلماء. دار الجليل للطباعة والنشر، عكا، ١٩٦٨، ص.٥٩ والمعنى الآخر "لا تكثروا عيالكم"؛ المفردات فى غريب القرأن تأليف أبى القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهانى (٥٠٢ هجرية) تحقيق وضبط محمد سيد كيلاني، بيروت، د. ت.، ص. ٣٥٤.