تمر الذكرى العاشرة لرحيل أديب رائع ومميز هو الصديق الشاعر عبد اللطيف عقل، فقد توفي في 26 آب 1993، وهكذا تمر الأيام سراعًا وتباعًا، وتبقى الذكرى التي تنفع المؤمنين المتأدبين.
إليكم ما كتبته عنه في كتابي "أقواس من سيرتي الذاتية"، ويبدو أنني أقدم الكتاب على دفعات، حتى أجدكم وقد قرأتموه، وإلا فالعذر بسبب مسألة الوقت والضغط قد يكون غير مبرر....
كم أرجو أن تقرأوا عن عبد اللطيف هنا:
عن قراءته يوم التضامن مع شفيق حبيب، عن سفرته مع سعود الأسدي، وحكاية "قتلتني"، عن نقدي له ونقده لي، عن تعليقاته ولغته وفكاهاته. ماذا قال عن د. سامي مرعي؟
..............................................................................................
مع عبد اللطيف عقل:
فاجعًا كان موت عبد اللطيف عقل الشاعر والمفكر. كان لقائي الأخير به يوم 24/5/1992م في مهرجان التضامن مع الشاعر شفيق حبيب في دار الثقافة العربية في الناصرة. يومها قدم لكل منا النائب عبد الوهاب دراوشة صينية نحاسية مكتوب عليها: " تكريمًا للشاعر....، وتقديرًا لعطائه في مجال الشعر الوطني”. والتقطت الكاميرا هذه الصورة التي ينعم فيها عبد اللطيف النظر بالهدية الرمزية ويعلق:
“ لا تعجبوا إن كانت هذه هي المرة الأولى التي يقدم لي أحد فيها شيئًا أو يكرمني بشيء”، وأتبعها بالقول:"أليست هذه مفارقة؟!”. قرأ عبد اللطيف يومها قصيدته"بيان العار والرجوع”، وكانت صيحته أو لازمته"هلا” تطن في القاعة ساخرة من هذا الزمن الرديء الذي قلبت فيه الموازين. أصر صاحبنا في القصيدة على فلسطينيته، وعلى حياة التقشف فيها مع كرامة متأصلة في وجدانه. وهذه القصيدة على الصعيد العملي الفعلي استمرار لقصيدة سابقة كان يردّ فيها على دعوة مشبوهة بالتخلي عن الوطن، إذ يقول في ديوانه"حوارية الحزن الواحد”:
أنا نبـــض الــتراب دمي، فكيـف أخون نبض دمـي، وارتحل؟
وأعود إلى كتب الشاعر وإلى طريقة إهدائه الكتب لي، فأجد اللمحات الفنية حتى في العبارة النثرية. - كتب لي في إهداء ديوانه "قصائد عن حب لا يعرف الرحمة”، وكذلك في إهداء كتاب"هي أو الموت”: - “أيها المتشرد من أجل أن تظل الكلمة مصلوبة على شفتي الجرح”.
* * * *
كيف بدأتُ الكتابة عن عبد اللطيف، وماذا كتب عني؟
كان ذلك أولاً مراجعة لكتابه الأول" أغاني القمة والقاع”، فكتبت في كتابي النقدي الأول – وهو أول كتاب في النقد صدر لدينا في الداخل- "عرض ونقد في الشعر المحلي” (ص61):
“عبد اللطيف عقل شاعر مسؤول أمام الكلمة والقيمة. أطلق ذاته المغتربة من وهج المأساة، وأوفدها للقارئ الواعي أمانــة في عنقه – أمانة عرضت على السموات والأرض فأبين أن يحملنها، وحملتها إلهة الحزن التي تتقن رقص الأوبرا في القمم والقيعان..... لأنه كما يقول الشاعر" لا بُعد بين قمة الوجد وقاعه”.
وقلت في المقال نفسه: "شيء مغرٍ في ديوان عبد اللطيف – وهو انتقاؤه للعنوان، فعنوان القصيدة أجمل في نظري من مضمونها. العنوان فستان ينتقيه لحبيبته ويحسن انتقاءه بذوق، لا تكاد تخطر حتى تشرئب الأعناق. والقصيدة عنده ملخص تركيزي لقصائد سابقة، فيها تكرار للذات بشكل أعمق، وكل قصيدة تهمس لي: أنا أجسد تجربة عقل”.
* * *
أما بداية المعرفة الشخصية فكانت أولها متابعة عبد اللطيف عقل لقصائد مجلة"الشرق” المنشورة في العدد السابق (شباط 1972). يومها تناول قصيدتي"ليلة ابن المعتز”، وأشار إلى أنني قصرت في المعاناة، ولو تركت القصيدة بتجربة غير مفتعلة لقدمت القصيدة بشكل أفضل. يومها أثار عقل غضبي. وفي العدد التالي كتبت "ردًا على نقد” فقلت:
“ ما أحسبني بحاجة إلى التوكيد أن هذا التضمين واستخدام الموروث كان طبيعيًا وتمثلاً، بل تصعيدًا لهذا الموروث على ضوء المعطيات الحياتية المعاصرة، فدراسة القصيدة لغويًا، ورجوعًا إلى خلفية ثقافية هو السبيل الأصولي قبل أن نخوض لجتها فنحكم اجتراء”. (الشرق عدد آذار 1972، ص42).
ثم عاد عبد اللطيف عقل إلي ليعالج قصيدتي الأخرى"صورة جديدة لامرئ القيس”، ولكن بلهجة مغايرة، فبدأ بالقول:
“ لماذا أحببت هذه التجربة لفاروق. إنها تجربة حقًا، وكما أرى استطاع فاروق هنا أن يسبق نفسه، وهو بين قصيدة وأخرى يقطع المسافات الطويلة في زمن قليل. إن هذه الصورة الجديدة تقفز من الرمز (الملك الضلّيل) إلى الواقع – الرمز المحدد الضيق إلى الواقع الفسيح المرير الذي عاناه فاروق بحدة الواعي المتمرد” (الشرق- عدد نيسان 1972، ص47).
أذكر أنني زرت عبد اللطيف في منزله في نابلس. عندها ترك فيّ انطباعًا أنه ما من شخص أحضر منه بديهة، أو أقدر منه على الكلمة أو النكتة أو السخرية أو التعبير عن المرارة وحتى على الشتيمة، فشتائمه عجيبة من قاموس خاص لا يحسن صياغتها إلا الأقلاء من الأذكياء. قال لي منكرًا علينا لقب (عرب 48) : ألا تكفيكم مصيبة واحدة حتى ربطوا اسمكم بسنة زفت؟؟! قال لي منكرًا قلة القراء للشعر: أتكتب شعرًا لتقرأ نفسك؟
أخذ عبد اللطيف يحدثني بتشاؤم ومرارة تارة، وبإيمان ومثابرة تارة أخرى... ويا الله ما أكثر نقده وما أحد غضبه!
* * *
زرته في جامعة النجاح حيث كان عميدًا لأحد الأقسام في الجامعة. يومها عرفت أن للرجل مكانة ومهابة خاصة، ولكنها تتلاشى أمامي إلى طيبة وأصالة فلاحيـّة حين أزوره في بيته الذي تنقل في أماكن مختلفة في نابلس، أو في منزل عائلته في دير استيا.
* * *
ولكني إن أنسَ لا أنس تألق عبد اللطيف في مؤتمر الشعر الفلسطيني الأول الذي عقد في فندق غراندنيو – الناصرة 27/11/1986م – يومها كان يتحدث بلغة غريبة طريفة مثيرة، يكثر من ألفاظ باهرة على غرار"الزمكان” – قبل أن تتردد على الألسنة. وأحس شاعرنا أنه عريس اللقاء. وحتى أسوق لكم بعضًا من لغته المثيرة الخاصة اقرءوا معي ما قاله في الذكرى الأربعين لرحيل د. سامي مرعي:
“ أنا لا أحاور الموت، فهو إمكانية الشخص الأخيرة، ولكني أحاور سامي متصورًا ماذا كان يمكن أن يقول قصدًا، لو أسعفته تلك الأصابع السوداء الناعمة بعض الوقت. كان سيقول: إذا تعلم الأطفال جدول الضرب بأسلوب تربوي إنساني فإن الغش في سوق الخضار سيباشر الاختفاء”.
* * *
ويخطر عبد اللطيف في ذاكرتي في مشهد آخر رواه لنا صديقنا سعود الأسدي يوم أن سافر وإياه إلى طبرية، حيث كانا يتشاطران هموم الكرب بعد الحرب. يومها قرأ له سعود قصيدة تقليدية. وكان عقل يقود سيارته (الفولكس فاجن) دون أن ينبس ببنت شفة، وكأن الأمر لا يعنيه. ويحدثنا سعود عن خواطره إزاء هذا الصمت المريب الذي قابله من عقل، حتى إذا قرأ سعود قصيدة بالعامية التي ختمها بالقول :
“بخاف بكرا إن متت عيني تجمد وهيكي يطبقوا جفوني وما عود أحظى بشوفة بلادي"
يقول سعود: وعندما قفلت القصيدة بالبيت الأخير، وجدت رأسي فجأة يضرب بزجاج السيارة الأمامي. قلت له: ما هذا يا أستاذ رحت تقتلني بضربة هالبريك! قال لي:بل أنت الذي قتلتني. وراح أبو الطيب يتناول مسجل صوت صغير من خزانة السيارة أمامه، وقال بإصرار:"أعد القصيدة من أولها!” (انظر الجديد:العدد الثاني سنة 1991،ص 59).
مثل هذا التصرف الذي رواه سعود يعكس لنا أننا أمام ذوّاقة مرهف الذوق، ووطني حتى النخاع.
ما زلت أذكر كيف أنه كان يسأل عن أدبائنا المحليين، وأحيانًا مع تعليقات ساخنة طريفة هنا وهناك. كان يعجب بقولة طه محمد علي :"ذبحوني على العتبة مثل خروف العيد”. فكتب له تقديمًا قبل قصيدة" عن حب لا يعرف الرحمة” إهداء :” إلى طه محمد علي وبيننا حزن كبير.”
وما دمت أتحدث عن علاقته بأدبائنا وكتابنا فلا أنسى لقطة سمعت عنها جديرة بالتسجيل. أجرى محمد وتد معه مقابلة تلفزيونية، وكان أن استفزه محمد بسؤال ما، فما كان منه إلا أن أصر على إلغاء المقابلة أو يتحققَ مبتغاه من وجوب نشر إجابته كلها. سمعت عن هذه الحكاية من عبد اللطيف نفسه، وذكرها لي محمد، ولكن ذاكرتي لا تسعفني الآن للتفاصيل، لان الموضوع أصلاً لم يكن يشغلني وقتها لسبب أو لآخر. أذكرها هنا لأؤكد أنه لم يكن يهادن ولم يكن يرائي.
* * *
قبل سنوات استضفنا في الورشة الأدبية في باقة الغربية شاعرنا عبد اللطيف عقل. يومها قرأ الأدباء الواعدون من نتاجهم. كنت أتوقع أن يقسو عليهم، لكنه فاجأني بحنوه البالغ واستعداده للمساعدة، وإذا بمقاييسه الصارمة تنقلب إلى حريرية رئيفة، سألته عن سر ذلك:
قال:"ألا يكفي أنهم يقرأون، أنهم يكتبون في هذا العصر الذي يتلظى فيه الشرق بالعار، وشعر القدس محلول على ظهر الجسور المشرعة”.
أظن أنني قدمت لقطات حضرتني، وبغيتي أن أعرّفكم بعمق معرفة حميمية بشخص عز علينا جميعًا، ليكون ذلك تخطيطًا يعكس ملامح رجل عظيم.
عظيم في شعره وفي فكره وفي إنسانيته، وكم أفدت منه!
أتساءل أحيانًا بعد أن تحضرني لحيته: هل حقًا رحل إلى غير عودة؟؟!!!