بعد مرور اثنين وعشرين عاماً على استشهاد المفكر العربي "حسين مروة"، يثبت نمو العديد من التيارات شديدة العنف والرفض للآخر تحت مظلة الإسلام، والجمود والتراجع الذي ما زالت تعيشه حركة التحرر العربية، صوابية ما ذهب إليه العلامة الشهيد، حين قال في مقدمة كتابه «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية » أن: «معركة التحرر العربية تقتضي الحسم في مشكلة التراث». ربما لا يزال الكثير من المثقفين العرب غير مدركين لحقيقة هذه المقولة، والخطورة التي تترتب على تجاهل هذه المشكلة، فالكثير من هؤلاء المثقفين - وأعني اليساريين على وجه الخصوص - قد أجلوا الخوض في هذا الموضوع، حتى على صعيد القناعات الشخصية!! وليس ثمة أفضل من التشخيص الذي جاء به الشهيد "مروة" للمشكلة التي تعتري النظرة السائدة للتراث، فهو يقول إن معظم الدراسات للتراث جاءت محكومة برؤية أحادية الجانب للمنجزات الفكرية في العصر العربي - الإسلامي الوسيط، «أي رؤية هذه المنجزات في استقلالية مطلقة عن تاريخيتها»، وهذا ما أفضى حسب تشخيصه إلى بقاء: «تاريخ الفكر العربي - الإسلامي تاريخاً ذاتياً سكونياً أو (لا تاريخياً)، لقطع صلته بجذوره الاجتماعية، أي بتاريخه الحقيقي الموضوعي». وإذا كان هذا القول تشخيصاً حقيقياً وصادقاً للمشكلات التي تعتري النظرة السلفية للتراث، فإنه أيضاً يضيء الجانب الآخر للمشكلة. فليس الإسلاميون المتطرفون وحدهم هم من ينظرون إلى التراث العربي - الإسلامي نظرة لا تاريخية، فالكثير من اليساريين والعلمانيين يخرجون هذا التراث من تاريخيته أيضاً، لأنهم يبررون رفضهم له على أساس أن ما يتضمنه من حلول لا يصلح لمشاكل اليوم، ويستنتجون من ذلك تخلف هذا الإرث التاريخي ورجعيته. ولكن أليس مجرد الاعتراف لمضمون هذا التراث بقدرته على حل مشاكل الماضي، هو اعتراف بعظمته وأهميته، وبضرورة البحث المنهجي فيه؟ وبالتالي فإن رد الفعل يجب أن يكون في مواجهة من يقدمون التراث على أنه جملة نصوص مقدسة لا يجوز المساس بها، وليس في مواجهة التراث نفسه، لأن تجاهل التراث، مرةً بحجة تخلفه، ومرةً بداعي الخوف من البحث فيه خشية الاصطدام " بحراس القداسة " لا يزيد المشكلة إلا تعقيداً. لم يكن "حسين مروة" البادئ في العمل على حلِّ المشكلة في التراث، كما أنه لم ولن يكون الأخير، ولكنه استحق بكل جدارة لقب المؤسس لما قدمه في عمله الفذ الفريد: «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية» فهو لم يكتف بتحديد المرض وتشخيصه، بل انطلق في عملية العلاج بجرأة نادرة، ونَفَس طويل باحثاً عما في هذا التراث من اتجاهات مادية تجاهلها أغلب الماديين المعاصرين، ورفض ولايزال يرفض أغلب المفكرين الإسلاميين وضعها في إطارها التاريخي الصحيح، وقد انطلق في عمله هذا في سبعينيات القرن الماضي، بناء على قناعته بأن الظروف كانت قد نضجت في تلك المرحلة: «لحل مشكلة العلاقة بين حاضر الفكر العربي وماضيه التراثي»، ولكن رياح الأحداث والتطورات جرت بعكس ما توقع "مروة" في مقدمة كتابه، إذ تبدو إشكالية هذه العلاقة بعد مرور ما يقرب من أربعة عقود أكثر تعقيداً وأبعد عن الحل. إذا كان من العسير إدراك جميع الأسباب التي حالت دون الاقتراب من حل هذه الإشكالية، فإن المنهج الصحيح يقودنا إلى حقيقة مفادها أن الحل قادم لا محالة، لأن حدة التناقض بين من يستعيرون من التراث كل شيء دون إدراك التغيرات في الظرف الموضوعي والتاريخي، وبين من يعيشون غربة اختيارية عن تراثهم وتاريخ شعبهم، لابد أن تفرز في نهاية المطاف مصالحة بين الإنسان العربي ونفسه، وبين مجتمعنا وتراثه. وأما الطريقة لتخفيف آلام المخاض الدامي لهذه المصالحة القادمة حتماً فهي بدون شك إعادة الاعتبار لهذا الخط الذي كان الشهيد "مروة" رائداً فيه، ومحاولة البناء على ما تم انجازه في هذا المجال. نجوان عيسى