ألتقط أنفاسي بصعوبة ظاهرة، فالمسافة من الشارع الخارجي إلى قاعات المحكمة العليا بعيدة على من لم يعد يحلم إلّا بأمسه، وصعبة على من ضربت السنين رئتيه وسد دخان الشباب بعض شعابها. أحد الحرّاس المكلّفين بتفتيش الوافدين إلى بناية الحجر الجميلة يرقّ لحالتي ويعرض علي كأس ماء وكرسيًّا، أطمئنه شاكرًا وأمضي إلى حيث تكون مصارع الأماني ومنابت الخيبة.
أفتح باب القاعة، تلفعني رائحة هوائها التي تذكّر "بهبّال" خمّارة بلا شبابيك، ملأ غرفها بحارةٌ أفرغوا ما شربوه من حليب الليل وناموا. أجلس على مقعد، محاطًا بمجموعة من المحامين، وأمامنا،على منصة خشبية، يجلس ثلاثة قضاة، أحسست أنهم كانوا يؤثرون البقاء في فراشهم في هذا الصباح البارد الرملي.
كان أحد المحامين على وشك أن ينهي مرافعته، مستهجنًا كيف لم توافق أجهزة الأمن الاسرائيلية على استجارة موكّله "أبو الهمايم" وطلبه الحماية في إسرائيل، وهو عميل قدم خدماته الجليلة لعدة سنوات خلت، "ومن المتوقع أن تؤذيه السلطة الفلسطينية التي لا يعرف رجالها الشفقة والرحمة".
حاول القضاة إسكات المحامي، الذي بدأت خدوده بالاشتعال، وبصوت متهدّج، يشرح كيف سيعذب الفلسطينيون موكله ويشحنونه بضربات الكهرباء، أخذ يحرك يديه بعصبية حتى كادت "الكيباه" أن تسقط عن رأسه وتضيع.
القاعة مليئة بالبشر، كأنها تحتضن أجمل عروض المدينة.
لم يحسم القضاة أمرهم في قضية هذا العميل. بهدوء مجرب ومتعب من حِمله، شرح رئيس الهيئة للمحامي، الذي بدأ يفتر ويستعيد لونه الأبيض، أن للعملة وجهين؛ فموكله يعيش عمليًّا، في أراضي السلطة الفلسطينية ولم يتحرش به أحد منذ ثلاثة أعوام على الأقل، وليس هنالك أي مؤشر على وجود خطر عليه فيما اذا استمر بالعيش هناك، هذا فضلًا على ما يحتويه ملف موكله من سجل لجرائم نفّذها وما زال، مثل سرقة سيّارات واقتحامات وغيرها من الجنايات، التي أضافها هذا "الصدّيق" إلى رصيده "الوطني" ومساعدته لأمن إسرائيل.
لوهلة، بعد هذا الشرح، حسبنا أن القضاة سيردون الالتماس، ولكن كانت المفاجأة حين طلبوا من نيابة الدولة أن تعيد النظر مرّة أخرى وتعلم المحكمة موقفها النهائي وبعده ستعطي قرارها.
محبطًا مما رأيته وسمعته، وقفت، بعد أن نادى المنادي اسم موكلي ورقم قضيتي. قبل أن أبدأ مرافعتي، طلب النائب العام أن يدلي بملاحظة، قد تساعد على إنهاء القضية، فأعلن أن الأمر الإداري الحالي الصادر بحق الأسير عمر البرغوثي سينتهي هذا الأسبوع، وأكد أن قائد جيش الاحتلال سيصدر أمر اعتقال إداري جديدًا لأربعة أشهر إضافية ويتعهد، باسم نيابة الدولة، بإطلاق سراح البرغوثي عند انتهاء تلك المدة.
كأنهم تخلصوا، فجأة من نعاس وملل، ترتسم على وجه القضاة الثلاثة بسمة ويظهر عليهم الحماس، يدفع الرئيس بجسمه إلى الأمام ويحاول بصوت أبوي رخيم، أن يقنعني بقبول مقترح النيابة ويصفه بالسخي، مضيفًا أن موكلي، ناشط مرموق في صفوف حركة "حماس"، وفقًا لما تصفه التقارير السرية التي قدمت لهم.
يسكت الرئيس، هنيهة، كي يتفحص ردة فعلي، بعد أن لاحظ، وهو يعرفني منذ عقود، من حركات جسمي، أنني غير موافق على كلامه، فأبادره مستغلًّا صمته، بأن عمر البرغوثي، الغائب عن جلسته اليوم، يبلغ من العمر اثنين وستين عاما، قضى منها ما مجموعه ستة وعشرين عامًا في السجن، كانت آخر عشرة منها بأوامر حبس إدارية، بدون تهمة ولا محكمة.
"لكنه ليس مجرد ناشط مرموق، بل هو واحد من قادة حماس المهمين"، يفاتحني القاضي الجالس على يمين الرئيس، وقد حسبته انه لا يتابع ما يجري في القاعة، فلقد رفع رأسه من بين ما كان أمامه من أوراق كان ينظر فيها مبديًا انشغاله عما كنت أقوله عن عمر. - "لنفترض أن ماتقوله صحيح، فإما أن تقدم لائحة اتهام بهذا الكلام ويعطى حق الدفاع عن نفسه، وإما أن يبقى البرغوثي حرًا بين أولاده الستة والأحفاد العشرة، لا يعقل أن تستمر هذه التراجيديا عشر سنوات، ولا تستطيع أجهزة الأمن الاسرائيلية أن تجد بينة واحدة كافية لتقديم لائحة اتهام بحقه". لم أنتظر رد القضاة، خاصة وقد لمست على وجوههم بعض الحرج.
لقد أمضى عمر البرغوثي سجنته الأخيرة ومدتها ثلاثة أعوام متواصلة، حتى أفرج عنه في شهر أكتوبر من عام ٢٠١٣. عاش حرًا لبضعة أشهر إلى أن جاءه جند الاحتلال الاسرائيلي، بعد عملية غزة الأخيرة، واعتقلوه مجددًا دون أن يتهموه ويحاكموه. زرته بعد اعتقاله في سجن مجدو وكان حينهاعاصفًا غاضبًا وقال: "عدت إلى أرضي يا أستاذ، بعد الإفراج عني، حرثتها، زرعتها وحصدتها وانتظرت الصبح، لكنهم جاؤوني في الفجر.. إنني أتفجر من الغضب وأخشى أن يتحول غضبي إلى كراهية، لا أريد أن أكره أحدًا، وأخشى أن يتعلم أولادي كره البشر.. إننا نكره الاحتلال ونحلم أن نفيق يومًا لنجده بخارًا سابحًا وهباءً منثورا، فنحن نحب بلادنا، نحب أرضنا ونحب أن نحب..". كنت أقص على القضاة ما قاله لي عمر حين كان يحلم بالحصاد، كان وجه عمر، ببسمته الرجولية الحزينة في كل زاوية أزحت إليها وجهي، لم أعد أراهم أمامي، كانت راحة يده المشققة من تعب، ترتفع وتهبط، كمروحة تنثر الطيب. في القاعة هدوء بئر، وأنا أسألهم، كيف لمن كان ضحية لهذه الأوامر أن يصير سيدها وباريها؟ وقبل أن يقاطعني القاضي صرخت: "لماذا تخشون عمر وهو يخشى أن يكره يومًا غاصبه وقامع شعبه، أمثاله يجب أن يكونوا طلقاء، انهم حرّاس الحياة، أوقفوا هذا النزيف، وامنعوا هذا التمادي، لا تكونوا ستائر للقمع، ولا أغلفة لفيروسات تفتك في جسد هذه الدولة.. إنني أخاف مما يجري في قاعاتكم، يا سادة، فالسارق الجاني وخائن شعبه عندكم مقبول ومرغوب، والشريف الآدمي عندكم سجين ومرفوض!"
قبل أن أترك مقعدي، يضغط على يدي بحرارة ويحييني، يعلن عن خجله مما سمعه؛ اسمه شلومو، وهو محام من تل ابيب كان ينتظر دوره في القاعة، سمع وآخرين قصة عمر البرغوثي وخجل. إنهم يا عزيزي، هكذا أجبته، يتصرفون كأبناء هذا المجتمع وليسوا كبُناته، لقد أضاعوا فرصة أن يكونوا بنائين صالحين وحماة لقيم الإنسان، وهذا ما يخيفني. وافقني، ومضى، حين كانت عيون البعض تطير صوبي كسهام كانوا يتمنون أن تكون مسكوبة من حديد مسمّم. يد النائب العام تمتد وبشبه تعزية وتقدير يشد على يدي ويتمنى أن يخسر قضاياه في المستقبل بمثل هذه العزة والكرامة، ويؤكّد أنه لن ينسى هذا اليوم، وسيتذكر دومًا ذلك العمر. كان النهار باردًا ورمليًا، ووجه عمر أمامي يبتسم.