وُلد هذا الأديب العربي الفذّ في مدينة البصرة العريقة في تاريخ علم اللغة العربية وتوفي فيها، وكان ذا باع طويلة في شتّى العلوم والمعارف في عصره، وهناك في فرقة المعتزلة مجموعة تحمل نسبته "الجاحظية". امتاز أبو عثمان برأي ثاقب سديد وبفكر خلاق حرّ فيه الكثير من المرح والدعابة كما سيتّضح لك أيها القارىء الكريم من العيّنة التالية من نوادره وطرفه. ومن مؤلفات الجاحظ، التي لا تخفى على جلّ بني لغة الضاد، الحيوان والبيان والتبيين والبخلاء.
امرأتان، فارعة ومخادعة
ما أخجلني أحد إلا امرأتان، رأيت إحداهما في العسكر، كانت طويلةَ القامة، وكنت على طعام، فأردت أن أمازحها. فقلت لها: انزلي كُلي معنا. فقالت: اصعد أنت حتى ترى الدنيا! وأما الأخرى فإنها أتتني وأنا على باب داري فقالت: لي إليكَ حاجة وأريد أن تمشي معي. فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صائغ يهودي وقالت له: مثل هذا! وانصرفت. فسألت الصائغ عن قولها فقال: إنها أتت إليّ بفصّ وأمرتني أن أنقش لها عليه صورةَ شيطان! فقلت لها: يا ستّي ما رأيت الشيطان! فأتت بك وقالت ما سمعتَ.
سندية لثغاء
أتيتُ منزلَ صديق لي فطرقت الباب فخرجت إليّ جارية سندية. فقلت: قولي لسيدك الجاحظ بالباب! فقالت: أقول الجاحِد بالباب؟ على لغتها! فقلت: لا، قولي له: الحَدَقي بالباب! فقالت: أقول: الحلقي بالباب؟ فقلت: لا تقولي شيئاً ورجعتُ.
قُلِ الحقيقة!
وقال: جائني يوماً بعضُ الثقلاء فقال: سمعت أن لك ألف جواب مُسكت، فعلمني منها! فقلتُ نعم. فقال: إذا قال لي شخص: يا زوجَ القحبة، يا ثقيلَ الروح، أي شيء أقول له؟ فقلت: قل له: صدقتَ!
آفة العلم النسيان؟
وقال الجاحظ: نسيت كنيتي ثلاثة أيام فسألت أهلي: بماذا أكنّى؟ فقالوا لي: أبو عثمان!
"تعب عل الفاضي"
العروض علم مردود، ومذهب مرفوض، وكلام مجهول، يستكد العقول بمستفعل ومفعول من غير فائدة ولا محصول.
اللسان هو الانسان
قال: وكان أعرابي يُجالس الشعبي فيطيل الصمت، فسُئل عن طول صمته فقال: اسمع فاعلم واسكت فاسلم. وقالوا: لو كان الكلام من فضّة لكان السكوت من ذهب. وقالوا: مقتل الرجل بين لحييه وفكيه. وأخذ أبو بكر الصديق، رحمه الله بطرف لسانه وقال: هذا الذي أوردني الموارد. وقالوا: ليس شيء أحق بطول سَجن من لسان. وقال النبي عليه السلام: وهل يكبّ الناس على مناخرهم في نار جهنم إلا حصائد ألسنتهم؟
إغاثة الملهوف
مررت بمعلم صبيان وعنده عصا طويلة وعصا قصيرة وصولجان وكرة وطبل وبوق. فقلت: ما هذه؟ قال: عندي صغار أوباش فأقول لأحدهم اقرأ لوحك فيصفّر لي فاضربه بالعصا القصيرة فيتأخّر، فأضربه بالعصا الطويلة فيفرّ من بين يدي، فاضع الكرة في الصولجان وأضربه فأشجّه، فيقوم اليّ الصغار كلهم بالألواح، فاجعل الطبل في عنقي والبوق في فمي وأضرب الطبل وأنفخ في البوق، فيسمع أهل الدرب ذلك فيسارعون اليّ ويخلصونني منهم.
"عفطت عليك، أجاك يا بلـّوط مين يعرفك"
وهذه النادرة الطريفة، نادرة الحمّال، مذكورة في "محاضرات الأدباء". استأجر رجل حمّالا يحمل له قفصا فيه قوارير على أن يعلمه ثلاث خصال ينتفع بها. فحمل الحمال القفص. فلما بلغ ثلث الطريق قال: هات الخصلة الأولى. فقال: من قال لك إن الجوع خيرٌ من الشبع فلا تصدقه. فقال: نعم. فلما بلغ ثلثي الطريق قال: هات الثانية، فقال: من قال لك ان المشي خير من الركوب فلا تصدقه. فقال نعم. فلما انتهى إلى باب الدار قال: هات الثالثة. فقال: من قال لك انه وجد حمّالا أرخص منك فلا تصدقه. فرمى الحمّال القفصَ على الارض وقال: من قال لك في هذا القفص قارورة صحيحة فلا تصدّقه.
المعرفة والنكرة، وجهة نظر
قال الجاحظ "كنتُ جالساً عند أحد الورّاقين ببغدادَ فاقترب منّي أبو العبّاس أحمد بن يحيى وكان من أئمة النحو في عصره فسألني: الظبي معرفة أم نكرة؟ فقلتُ: إن كان مشويّاً على المائدة فهو معرفة وإن كان في الصحراء فهو نكرة. فقال أبو العبّاس: ما في الدنيا أعرَفَ منك بالنحْو.