حينما ظهر كتاب الناقد الإنجليزي المعروف بول جونسن “المثقفون” ثارت ثائرة الكثيرين عليه واعتبروه شخصاً متحاملاً وجلفاً في حديثه عن المثقفين الكبار في التاريخ الإنساني، شخصاً تعوزه الكياسة وينطلق من منظور كسر التابو أو الهالة المقدسة التي أحاطت بتلك الرموز الفكرية من أمثال جان جاك روسو وفولتير وشيللي وسارتر وفيكتور هوجو وديستويفسكي وغيرهم، فقد تحدث ناقد صحيفة الأوبزيرفر عن هؤلاء وغيرهم بشكل جردهم تماماً من تلك الهالة وكشف الكثير من اعوجاج سلوكياتهم ونفسياتهم وعن مقدار التناقض الأخلاقي الهائل بين الأفكار العظيمة التي دعوا إليها وعرفوا بها وبين الواقع الذي كانوا عليه.
لقد ارتبطت مفردة الثقافة في وعينا بالاستقامة والبحث عن الأفضل وعن المثالية والتفرد أو التميز، وفي اللغة فإن الثقافة ضد الاعوجاج فثقف الشيء أي قوِّمه وجعله مستقيماً، ولذلك فالمثقف هو صانع الأفكار ومروجها وهو الشخص الذي يعمل طوال حياته على الارتقاء بالأفكار ومن خلالها داعياً إلى الفضيلة والمثالية والارتقاء وكاشفاً عن المساوئ والأخطاء وباحثاً عن الخير وتطور المجتمع والإنسانية، هكذا كان المثقفون الكبار يدعون ليل نهار عبر الأفكار التي وضعوها والكتب التي نشروها والنظريات الأخلاقية التي روّجوها وأعادوا إنتاجها مراراً، لكن بول جونسن كشف في كتابه عن أن كل ذلك كان نوعاً من الخديعة مارسه هؤلاء على المجتمع!
الفيلسوف المعروف غرامشي كان من أوائل من قال إن لكل مجموعة اجتماعية مثقفيها الذين ينحصر دورهم في القيام بدور الهيمنة والسيطرة وتحقيق الانسجام داخل الجماعة تماماً كما كان يفعل الشاعر العربي قديماً داخل القبيلة مثلاً، فالمثقف لم يكن ملاكاً إذن وإنما كان واحداً من أدوات السيطرة وهو من خلال دوره ينسجم ويتماهى مع أصحاب السلطة أكثر مما يتماهى مع بسطاء المجتمع من هنا يتهم المثقف بأنه صاحب توجه فردي أو فوقي غالباً.
الحقيقة فيما يخص المثقف هي أن الشخص لا يكون مثقفاً هكذا بلا دلالة أو تميز ما، إن المثقف الحقيقي هو ذلك الذي يحمل وعياً خاصاً ورأياً خاصاً، بل ورؤية خاصة للحياة والواقع والعالم، مع ذلك فإن الفيلسوف الفرنسي بيار بوردو يؤكد على أن هناك فجوة بي الخطابات والأفعال، مؤكداً بذلك على فكرة بول جونسن حول تناقض المثقف، كما أن بوردو طرح سؤالاً هاماً هو ادعاء كثير من المثقفين قيادة المجتمع فشكك في قدراتهم وأيدلوجياتهم واتهمهم بالتواطؤ مع مختلف أشكال السيطرة متفقاً هنا أيضاً مع جونسن الذي تحدث كثيراً عن النزعة البراغماتية المصلحية لدى كثير من المثقفين.
إن المثقف هو الشخص صاحب الوعي الخاص والرؤية الخاصة لكل ما حوله، وهو الشخص الساعي دوماً نحو التغيير للأفضل والداعي إليه بكل الطرق الإنسانية، لكنه حتماً ليس الأكثر حكمة أو قيمة من الآخرين، ولا يصح أن يتصرف كوريث لرجال الدين بالمعني القديم للمصطلح بقدر ما يتوجب عليه أن يكون جزءاً من حراك المجتمع نحو الارتقاء للأفضل بتفعيل قوى الفكر والفن والثقافة.
( الاتحاد )
- كاتبة من الإمارات