أستاذ الأدب الإنجليزي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا، مثقف موسوعي، مفكر وناقد أدبي، موسيقي وعازف بيانو، مدافع جريء وعنيد عن المستضعفين لا سيما أبناء شعبه الفلسطينيين، أقوى صوت سياسي للفلسطينيين وهو من مؤسسي ما بعد الكولنيالية. إنه سفير حضاري للعرب، مسموع ومحترِم للضمير الانساني؛ مفكر عالمي، داعية لاستعادة حقوق المضطهدين، نبذ فكرة الاقتصار على التخصّص وخرج من السياج الأكاديمي ليحلّق في الفضاء الرحب، سليل التقاليد الفكرية التي أنجبت فوكو وديريدا وهابرماس وأدورنو وتشومسكي وغيرهم.
ولد إدوارد وديع (وليم) إبراهيم سعيد في الأول من تشرين ثاني عام ١٩٣٥ في القدس (القابلة كانت يهودية ألمانية) ورحل عن هذه الفانية إثر صراع مع مرض سرطان الدم كوالديه وعمّته نبيهة، في ٢٥ أيلول عام ٢٠٠٣ في نيويورك، تاركا زوجته مريم وابنه وديع و ابنته نجلاء. حمل أبوه الجنسية الأمريكية وكان رجل أعمال ثريا وانتمى إلى الطائفة البروتستانتية المقدسية، اشترك في الجيش الأمريكي في الحرب الكونية الأولى. والدة إدوارد، هيلدا موسى شماس، ولدت في الناصرة وانتمت لنفس الطائفة ولها أصول لبنانية. انتقل أبو إدوارد إلى القاهرة في عشرينات القرن الماضي للتجارة وعاد من أمريكا إلى فلسطين عام ١٩٣٢ وتزوّج. أطلقت الوالدة الاسم إدوارد على ابنها لإعجابها وتيمّنها بالأمير البريطاني إدوارد. درس إدوارد في القدس حتى سن الثانية عشرة، في مدرسة سانت جورج الإنجيلية المقدسية، مدرسة المطران التي تأسست عام ١٨٩٩. لم يجد إدوارد أي مصدر يدل على أن أحد أجداده كان يحمل الاسم “سعيد”. والفلسفة الإسلامية ترى أن “خير الأسماء ما حُمِّد وعُبِّدَ”.
طفولته في فلسطين، كانت سلسلة من المآسي، بدأت حينما وجد أسرته وعمره 12 عاما تترك منزلها هربا من المذابح، وبعد 40 عاما، في عام 1998 قرّر بعد تردّد أن يزور منزله في شرق القدس، وكانت الصدمة حين وجد مكانه مستوطنة يسكنها صهاينة، استقبلوه بالمدافع، ورفضوا حتى أن يُلقي ولو نظرة واحدة على المنزل من الداخل، فرجع وهو يبكي بشدّة وفي ذهنه حلم واحد: حلم العودة. عندما وجد أبوه وديع رجل الأعمال العصامي بلدته "القدس" أصغر من طموحاته انتقل بشركته المتخصّصة في أدوات الكتابة إلى القاهرة عام 1929؛ حيث حقّق نجاحا ملحوظا، وهو الرجل الذي قضى فترة من حياته في الولايات المتحدة، والتحق بجيشها، وخاض معه الحرب العالمية الأولى، وورث عنه إدوارد وإخوته الجنسية الأمريكية. في عام 1932 عاد إلى الناصرة ليتزوّج من "هيلدا موسى" ابنة وكيل المعمودية التي ظلّت تحتفظ بجواز سفرها الفلسطيني، ولم تحصل على الجنسية الأمريكية، وأصرّت على البقاء في مصر، ثم حصلت على الجنسية اللبنانية بعد ذلك. ثلاث سنوات مرّت على زواج هيلدا بوديع، بعدها ولد إدوارد في القدس التي عاشت فيها الأسرة حتى أوشك عام 1947 على الانتهاء؛ ليغادرها الطفل إدوارد ابن الثانية عشرة في ديسمبر، مع أبيه وأمّه وأخواته، ولم يعد إليها بعدها.
قبيل حرب ١٩٤٨ وتحديدا في كانون الأول عام ١٩٤٧ انتقلت العائلة من حيّ الطالبية، شارع برنر اليوم، في القدس إلى بيروت فإلى القاهرة، شارع عزيز عثمان بجزيرة الزمالك طابق خامس، يطلّ على حديقة أسماك. من حيّ الزمالك عام ١٩٤٧ إلى المدرسة الأمريكية ومنها إلى كلية فكتوربا المعدّة للنخبة فقط، المدرسة، الكنيسة، الحديقة، البيت. درس إدوارد في إعدادية الجزيرة في القاهرة والطلاب أرمن ويونانيون ويهود وأقباط وإنكليز، لا وجود لأي عربي مسلم، والمعلّمات كنّ انكليزيات. مثل هذه المدارس التي تعلّم فيها إدوارد كانت مخصّصة لأبناء الطبقة الحاكمة بغية زرع بذرة التواصل مع إنجلترا لاحقا. ومن زملاء إدوارد في هذه المرحلة التعليمية الأولى يمكن التنويه بالملك حسين، عاهل الأردن سابقا، والممثل المصري العالمي أنور الشريف. يذكر أن إدوارد قد طُرد من الكلية المذكورة عام ١٩٥١ بحجّة الشغب. شعور بالغربة اجتاح إدوارد في صباه، تلميذ فلسطيني في القاهرة، ذو اسم انجليزي وجواز سفر أمريكي ولا هوية واضحة المعالم. بعدها أُرسل الفتى لمتابعة دراسته في مدرسة ماونت هرمون الداخلية في ماساشوستس حيث أحسّ بالتعاسة، ولكنه برّز في التحصيل، مرتبة أولى أو ثانية بين زهاء ١٥٠ طالبا. تزوّج إدوارد سعيد من امرأة أمريكية أولا ثم تمّ الطلاق وتزوّج ثانية من اللبنانية مريم قرطاس. كان والده يريده طبيبا، وفعلا التحق بكلية الطبّ لفترة ما، لكنه تمرّد على هذه الدراسة: كسر أنابيب الاختبار في المعمل، وامتنع عن الذهاب إلى الجامعة.
فى القاهرة من موقع ثراء، وحماية ظاهرية، كان الطفل إدوارد واعيا بالكاد، ببداية الشتات الفلسطيني، ومن خلال عمّته "نبيهة"، التي عاش في منزلها، تعرّف لأوّل مرّة على التجربة الفلسطينية بوصفها تاريخا وسببا للغضب والرعب اللذين شعر بهما في معاناة اللاجئين. كان فلسطينيا مسيحيا في مجتمع عربي مسلم في مصر، وطفلا عربيا في مدرسة استعمارية بريطانية في القاهرة، وبعد ذلك كان طفلا أمريكيا -كما يفترض- باسم عربي واضح، وملابس مدرسة بريطانية في مدرسة أمريكية، وكذلك في القاهرة كان "أنجلوفوني" في مجتمع "فرانكوفوني" والقائمة طويلة وممتدّة. التمرّد كان دائما النقطة الفاصلة في حياته؛ فبعد أن أرسله والده إلى مصر للتعليم والتحق بالمدرسة كان متمرّدا على الأحوال السائدة آنذاك لم تعجبه رغم صغر سنه الهوّةَ بين عالم الباشوات والمصريين العاديين في الأربعينات، وفي كلية فيكتوريا في القاهرة ضبطوه وهو يلقي الحجارة خلال فترة الراحة لتناول وجبة الغداء، وأدّى ذلك إلى ضرب مبرّح بالعصا، وفقا لما أمر به الناظر ونفذه "بكفاءة محايدة" الأستاذ لاجنادو اليهودي الشرقي الأوروبي، الذي سبق أن سمعه "سعيد" ينصح ولدا أرمنيا كان يغمس خبزه في مرق اللحم بألا يأكل مثل العرب. وتحت تأثير آلام التعدّي والإصابة أقسم إدوارد سعيد وهو في الرابعة عشرة من عمره أن يجعل حياتهم سوداء، دون أن يمسكوا به، ودون أن يترك نفسه تقترب من أي منهم، وأن يأخذ منهم ما يجب أن يقدموه له كاملا وبطريقته الخاصّة. كان محبَطا وعانى دائما من المشاكل، ودفعه ذلك إلى القول بأنه كان شخصا آخر، شخصا مختلفا ومتميّزا، وفي بعض الأوقات بدت أمّه كما لو كانت تعلم هذا أيضا، وبدت هي أكثر من أيّ شخص آخر، قادرة على منحه حرية الاقتراب من ذاته السرية، ولكنه لم يستطع أن يعتمد عليها اعتمادا تامّا؛ ليكتشف ذاته المختفية، وكانت أمّه بتدليلها له وبحثها داخله هي المؤسّس لحبّه لأهمّ شيئين في حياته: اللغة والموسيقى.
لكنّ أباه كان يحارب لكي يشكله، لكي يخلق "إدوارد" الذي تخيّله، لكنّه بإجباره على الرحيل إلى "مونت هرمون" وهو في الخامسة عشرة من عمره، والتخطيط لهجرته من القاهرة، ومساعدته ماليا خلال سنوات دراسته جعل من الممكن بالنسبة له أن يتحرّر من هذا القالب. هذه الملابسات لخّصها إدوارد سعيد في كتابه "خارج المكان" بقوله: "وقع خطأ في الطريقة التي تمّ بها اختراعي وتركيبي في عالم والدي وشقيقاتي الأربع. فخلال القسط الأوفر من حياتي المبكّرة، لم أستطع أن أتبين ما إذا كان ذلك ناجمًا عن خطئي المستمر في تمثيل دوري أو عن عطب كبير في كياني ذاته. وقد تصرّفت أحيانًا تجاه الأمر بمعاندة وفخر. وأحيانا أخرى وجدت نفسي كائنا يكاد أن يكون عديم الشخصية وخجولا ومتردّدا وفاقدا للإرادة، غير أن الغالب كان شعوري الدائم أني في غير مكاني".
لذلك فكثيرًا ما كان ينطق اسم "إدوارد" بسرعة كبيرة ويشدّد على اسم "سعيد"، وأحيانا أخرى كان يربط الاسمين معًا وينطقهما بشكل سريع كي لا يتّضح أي منهما! لقد احتاج إدوارد سعيد -كما كتب في مذكراته- إلى أن يسلخ أكثر من 50 عامًا من عمره كي يعتاد على هذا الاسم، أو لكي يشعر بضيق أقلّ حيال اسم إنجليزي بعيد الاحتمال عن أن يكون مقرونًا بـ"سعيد"، وهو اسم عائلة عربي صميم.
سيرة التحرّر من المنفى. “خارج المكان” سيرة حتى حصوله على الدكتوراة عام ١٩٦٢. تبدأ سيرته: “"تخترع جميع العائلات آباءها وأبنائها وتمنح كلّ واحد منهم قصّته وشخصيته ومصيره بل إنّها تمنحه لغته الخاصة. وقع خطأ في الطريقة التي تمّ بها اختراعي وتركيبي في عالم والدي وشقيقاتي الأربع (....) هكذا كان يلزمني قرابة خمسين سنة لكي أعتاد على "إدوارد" وأخفّف من الحرج الذي يسبّبه لي هذا الاسم الإنكليزي الأخرق الذي وضع كالنير على عاتق سعيد اسم عائلة العربي القحّ". والد إدوارد كره القدس لأنها تذكّره بالموت وكان مُعجبا بالأسلوب الأمريكي في الحياة والأمّ مثقّفة وكانت تفضّل التحدّث بالإنجليزية. كان خلاف بين أبيه وأبناء عمّته نبيهة على مسائلَ مالية. كان عضوا في المجلس الفلسطيني بين العامين ١٩٧٧-١٩٩١. في عام ٢٠٠٣، ساهم سعيد مع حيدر عبد الشافي، إبراهيم الدقاق، ومصطفى البرغوثي في تأسيس حزب المبادرة الوطنية الفلسطينية، كبديل سياسي لحماس وفتح. كان يدعو إلى التصدّي للضغوط الإسرائيلية والخارجية، والعمل على استمرار الكفاح الوطني من اجل إنهاء الاحتلال والاستيطان، وإقامة دولة فلسطين الديمقراطية المستقلّة على كامل الأراضي المحتلّة عام ١٩٦٧ وحماية حقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، والعمل على كسر الحصار الاحتلالي وإفشاله. زيارة فلسطين مع زوجته هيلدا الشمّاس وولديه بعد ٤٥ سنة، القدس الغربية منزل العائلة، منزل أهل أمّه في الناصرة ومنزل خاله الطبيب منير الشمّاس في صفد. وزيارة القاهرة عام ١٩٩٣ بعد ثُلث قرن من مغادرتها، وللقاهرة دور مميّز في شخصية سعيد. الكتابة بالنسبة لسعيد نوع من أنواع الصراع.
منذ سنة ١٩٦٣ وهو في جامعة كولومبيا حتى تقاعده، الأستاذية عام ١٩٩٢. تكلّم بالإضافة للإنجليزية والعربية واللهجات الفلسطينية والمصرية واللبنانية، الفرنسية والألمانية والإيطالية. تكلّم بإلإنجليزية ليس لينتمي بل من أجل ان يُخلخل ويكتشف ويكشف. لم يرجع الى فلسطين بحثا عن الجذور، بل عاد من أجل ان ينظر الى المستقبل، ويضع فلسطين في خريطة الألم الانساني. تراث فكري يشمل فيكو ولوكاش واورباخ وغرامشي وفوكو وفانون. هذه السلالة الفكرية - النقدية. أحبّ اللغة والموسيقى أكثر من كل شيء، التمرّد أهمّ سمة فيه. وإلى جانب كلّ ذلك فإنّ لإدوارد سعيد ثمانية كتب عن فلسطين تمّت ترجمتها إلى ٣٥ لغة، لكنّه حتّى وفاته كان يشعر أنّه لم يفعل شيئا. وصف سعيد نفسه بأنه "مسيحي تشرّب الثقافة الإسلامية. عاش معظم حياته في أمريكا، يُتقن الإنجليزية أكثر بكثير من العربية، إلا أنّه عربي على الدوام؛ هذا الرضى الذي أحصل عليه من أحاديثي التي تمتدّ من أكسفورد إلى كاليفورنيا لا يرضيني! لكن ما يرضيني هو أن أتحدّث بالعربية في عالمنا العربي ". كان إدوارد يعيش ضمن أسرة كثيرة التنقّل بين القاهرة والقدس ولبنان والولايات المتحدة، وضمن حياة مدرسية قلقة هي الأخرى، تقوم على الصراع أكثر مما تقوم على التوافق والاندماج. استطاع سعيد أن يخرج من تلك الثنائيات المرّة التي كان يعانيها. حصّة اللغة العربية، ونادراً ما كان يتكلم، وهذا ما أورثه حالة من التقوقع والانكفاء على الذات، والتموقع في مؤخرة الصف. إذ إن فكرة الانغلاق داخل هوية أو إثنية أو قومية كانت بالنسبة لسعيد لعنة لا تطاق. يعتبر أيلول ١٩٩١ حدّا فاصلا في حياة سعيد، بداية مرضه القاتل. كان جوابي الثابت على مشقّات مرضي المتزايدة هو الإكثار من الاستذكارات ومحاولات إحياء نتف من حياة عشتها، أو استحضار بشر غابوا. درج على مراسلة أمه منذ ١٩٥١. غير أنّ الشاب الاميركي، ذا الأصل العربي، الذي كان يسير وحيدا في شوارع نيويورك، وسط عجقة مؤيّدي اسرائيل في حرب الأيّام الستّة، اكتشف فجأة غربته عن المكان الذي يعيش فيه. رأى الظلام يحاصر عالم القيم الانسانية التي اعتنقها، فقرّر ان يصير فلسطينيا. جاء الى لبنان ودرس اللغة والثقافة العربيتين على يد المعلم اللغوي المعروف انيس فريحة. وفي بيروت بدأت فكرة كتابة "الاستشراق" في التبلور، وعاد الى أميركا بهويتين واسمين مثلما ولد، ومثلما وعى طفولته في القدس والقاهرة. ولد الشاب مرّتين، الأولى في القدس عام ١٩٣٥ والثانية في نيويورك وبيروت عام ١٩٦٧، وبين الولادتين أقام في القاهرة تلميذا في مدارسها الكولونيالية، وجاء إلى صيفيات ضهور الشوير الرتيبة. عزف على البيانو وقرأ الأدب الانكليزي، وتفرّج على جسد تحية كاريوكا يتلوّى تحت عيون فتية مصابين بالذهول. أكمل دراسته في برنستون وهارفرد، واكتشف جوزف كونراد، وبحث عن البدايات.
"معنى النكبة"، الذي صاغه قسطنطين زريق باسم جيل النهضة الثانية، تحوّل عنده سؤالا كونيا. النكبة ليست سؤالا عربيا فقط، يُطرح على التخلف العربي وانعدام الوعي القومي كما عند زريق، بل سؤال إنساني يتشكّل في قلب سؤال العدالة في العالم، وفي صلب الوعي الغربي.
بداية نقطة التحوّل، اهتمام بالشأن الفلسطيني، التقرّب من منظمة فتح (حتف = حركة تحرير فلسطين، أوّلا) وياسر عرفات وبعد ذلك انتقد اتّفاق أوسلو والسلطة الفلسطينية بشكل لاذع وحاول بعض الزعماء الفلسطينيين منع تداول كتبه في الأراضي المحتلّة. في سنواته الأخيرة زار القدس عدّة مرّات وأراد رؤية منزل العائلة. وبعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان، زار سعيد الجنوب وألقى حجرا على الجانب الإسرائيلي.
“نشأتُ كعربي ذي تعليم غربي، وقد شعرت أنّني أنتمي لكلا العالمين دون أن أنتمي إلى أيّ منهما انتماء كاملا منذ الزمن” الذي بمقدور ذاكرتي استعادته … إلا أنّني عندما أقول (منفى) فلا أعني شيئا ما، فعلى النقيض، فإنّ انتمائي لكلّ من الجانبين على الخطّ الإمبريالي الفاصل، كما هو واقع الأمر، قد ساعدني على فهم كليهما بيُسر أكثر”. “إنّني قد عبرت الخطّ الفاصل بين الشرق والغرب، وولجت إلى حياة الغرب، إلا أنّني احتفظت بصلة عضوية مع مكان نشأتي، وكانت هذه عملية عبور أكثر منها عملية إبقاء على الحواجز”. "أنا لم أعان قط نفس مصير أي لاجئ تعيس". ادوارد سعيد يجب ان يُقرأ لا ان يُرثى. ويجب أن يدفعنا إلى حبّ الحياة التي أحبّها حتى القطرة الأخيرة. كان يحدثنا عن الغضب في وصفه علاجا ضد الموت. غضبه يجب أن يصير غضبنا، كي لا تبقى العرب في وادي الانحطاط والذلّ.
في وصيته الأخيرة، قرّر الذي عاش "خارج المكان" أن يرقد رماده في لبنان. لن يرقد سعيد في برمانا، حيث المقبرة، بل سيبقى خارج المكان لأنّ له القلوب والأمكنة كلها.
مكانة هامّة في مضمار الأدب والفكر والسياسة، الاستشراق والثقافة والمثقف وصوره والإمبريالية. إنّه محاور بكفاءة عالية مفكريه وفلاسفته من أمثال مونتسكيو، وارنست رينان، وكارل ماركس، وهيغل، وميشال فوكو، وجاك دريدا ونعوم تشومسكي، وآخرين كثيرين. لذلك كان المفكّر البريطاني جورج ستاينر على حقّ عندما قال ذات مرة: " إن إدوارد سعيد نصّ مفتوح على العالم" فقد كانت مساهماته الثقافية والفكرية مشهودا لها في العالم بأسره. إسمه الغربي والشرقي مثل جوهر الإنسان الفذّ. سعيد ينقلنا إلى عالمه الصغير حيث هو : كسول وشيطان" وحيث يتوجّب عليه الانصياع للنظام الصارم والعادات ولسوط أبيه وإهاناته المتكرّرة التي أشعرته بالخزي وغرست به عدم الثقة بالنفس. يكرّس سعيد صفحاتٍ طويلةً لشرح علاقته غير المتكافئة بوالده القوي وبسطوته على الطفل الفزع المرعوب سعيد. على العيش في روتين حياتي قاسٍ يسدّ باب الحريه والتعطّش الى الانفلات: " لم يسمح لي بأن أزور أماكن اللهو العامّة أو المطاعم، وكان والداي يتناوبان على تحذيري دائماً من الاقتراب من الناس في الباص ومن تناول المشروبات أو الأطعمة من محلّ أو بسطة، والأهمّ أنهما صوّرا لي بيتنا والعائلة على أنّهما الملجأ الوحيد في زريبة الرذائل المحيطة بنا". يصف سعيد بتفصيل شديد، يبعث على الدهشة والإكبار على القدرة من مكاشفة أدقّ خفايا التفاصيل الجارحة والمؤلمة، كمن يضعها على طاولة التشريح عارية حقيقية تماماً عن التعامل مع الطفل سعيد ككيان"بشع مشوّه يكثر من كل العلل"، إلى صفعات والده الجسديه:"كان بمقدوره أن يكون عنيفاً من الناحية الجسدانية فيصفعني صفعات قوية على وجهي وعنقي فأنكمش عنها أو تجنبها بطريقة تشعرني بمذلّة كبيرة. أسفت لقوّته وضعفي أسفاً لا تستطيع الكلمات التعبير عنه". بهذا يصف سعيد "الكبسة الشرسة" على غرفته وكان تجاوز الرابعة عشرة بقليل ليطلّ والده ملوّحاً بقرف بمنامته التي تركها في الحمّام كمن يمسك " بأداة إجراميه" قائلاً: "أنا وأمّك لاحظنا أنّك لم تستحلم وهذا يعني أنّك تعبث بجسدك" ويطلّ من خلف والده وجه والدته الممتقع ممّا بعث في نفسه حالة من "الرعب والذنب والعيب والهشاشة". "ظلّت أمّي تشكّل مرجعاً لي معظم الأوقات وبطرائقَ لا أعيها تمام الوعي ولا أفهمها على نحو محدّد"، ذلك أن شعوري بأني أبدأ حياتي بأمّي وبها أنهيها". انتقد سعيد التخلّف في العالم العربي إلا أنّه بعكس طه حسين لا يرى في أوروبا نموذجا للإنسانية.
كتب عنه محمود درويش: " لو سُئل الفلسطينى عمّا يتباهى به أمام العالم ، لأجاب على الفور : ادوارد سعيد. فلم يُنجب التاريخ الثقافي الفلسطينى عبقرية تضاهى ادوارد سعيد المتعدّد المتفرّد . ومن الآن ، وحتى إشعار أخر بعيد ، سيكون له الدور الريادي الأول فى نقل اسم بلاده الأصلية ، من المستوى السياسى الدارج الى الوعى الثقافى، ولكنّه – بوفائه لقيم العدالة المهدورة على أرضها ، وبدفاعه عن حقّ أبنائها فى الحياة والحرية – أصبح أحد الآباء الرمزيين لفلسطين الجديدة "، وكتب عنه أيضا:
أنا من هنا أنا من هناك ولست هناك ولست هنا ليَ اسمان يلتقيان ويفترقان ولي لغتان نسيت بأيّهما كنت أحلم لي لغة إنجليزية للكتابة طيعة المفردات ولي لغة من حوار السماء مع القدس. من فلسطين خرج ولم يعد
عمل أستاذا ومحاضرا في العديد من الجامعات، بينها جامعات هارفارد وستانفورد وهوبكنز، ومنذ عام ١٩٦٣ وهو يشغل منصب أستاذ كرسي للأدب الإنجليزي والأدب المقارن في جامعة كولومبيا بنيويورك، إحدى أهم خمس جامعات في العالم، وميزانيتها تعادل ميزانيات الأردن وفلسطين وسوريا ولبنان مجتمعة، وفيها حوالي أربعة آلاف أستاذ جامعي، وبين هؤلاء خمسة فقط يحملون لقب أستاذ الأساتذة، منهم إدوارد سعيد الذي اخترق بعلمه وثقافته حضارة الغرب الأمريكي، وحاور المستشرقين في بريطانيا وأمريكا وسواهما حول قضايا حيوية، كاشفًا خطورة المعرفة غير المقترنة بالشجاعة على الاعتراف بالآخر بعرقه وجنسه وثقافته، بحضارته ووطنه وأرضه ودولته، وطارحا نفسه بقوّة كأحد نقّاد الغرب الكبار الذين يعيدون النظر في كل منجزات الحضارة الغربية، من داخلها وليس من خارجها، وكتبه كلها تأتي في هذا الاتّجاه منذ كتابه الشهير عن الاستشراق إلى كتابه عن الثقافة والإمبريالية. وهو ما جعلها تجد رواجا كبيرا في المجتمع الأمريكي وقرّاء الإنجليزية بشكل عام. إذ كان من أكثر الكتاب في الغرب ملاحقة لما تصدره دور النشر حول ما يمسّ المجتمعات الشرقية.
رأى أنّ أصعب شيء في الحياة وأكثر مشقاتها أن يشعر الإنسان أنه بلا وطن أو مكان يعود إليه، هذا الإحساس كبر في أمريكا، كان يدرك في وطنه في فلسطين أنّ علاقة كلّ من حوله بالصهيونية تزداد قوّة يوما بعد يوم، وفي نيويورك عانى كثيرا حتّى يستطيع التعامل مع زملائه اليهود.
حتّى وفاته كان متردّدًا في الانتماء لأمريكا انتماءً تامًا، بعد خمسين عامًا فيها؛ فهو يقول: "ازداد حزني كلما ازدادت أمريكيتي، وصمّمت على مواجهة هذه الأمركة"، فهو فيها منفي بلا جذور، ولكنّه اعتاد الحياة فيها، وحبّه لها نابع من اعتزازه بخمسين عاما من عمره!
حين وضع سيرته في كتاب جعل عنوانه "خارج المكان" مستغلا قدرته على المناورة في أفق البلاغة والفلسفة والسياسة والتاريخ في آن واحد؛ فهو لا يغادر المكان جغرافيًا إلا من أجل أن يعود إليه رمزيًا ليحتويه ويعلن انتماءه إليه، وعدم تخلّيه عنه، والإمساك به حتّى الرمق الأخير.
عاش ومات معتزّا بفلسطين ومؤمنا بحقوقه وحقّ كل الفلسطينيين في الأرض، وحالما بعودته ليعيش في وطنه ولو ليوم، وهو الحلم الذي لم يستطع تحقيقه ولن يستطيع الملايين غيره أن يحقّقوه طالما بقيت المنطقة تحت رحمة الاحتلال: المعلن في فلسطين والمستتر في الدول الباقية!
لم يسأم من مقاومة النظام العالمى الجديد ، دفاعاً عن العدالة ، وعن النزاهة الإنسانية وعن المشترك بين الثقافات والحضارات ". عن العراق: الحرب الأغبى والأكثر تهوّرا فى العصور الجديدة وجوهرها العنجهية الإمبريالية دون اتّعاظ بالتجربة التاريخية ومدى التعقيد فى شئون البشر. انّها حرب لا حدود لعنفها الوحشى الذى توفّره لها أحدث تقنيات القتل. وليس من تجسيد أفضل لهذه الحرب الأمريكية على العراق من جورج بوش نفسه عندما يحاول جاهدا أداء الدور حسب التلقين المسبق أو قراءة النصوص المكتوبة له والتى لا يفكّ حروفها ألا بالكاد. "يبدو أن أعمق علاقة ربطته مع الجنس اللطيف كانت مع أمّه مريم، الابن الوحيد وأربع شقيقات. إيڤا عماد أوّل امرأة دخلت حياته في القاهرة وتكبره بسبع سنوات إلا أنّ الزواج منها لم يتحقّق لتدخّل أمّه. وفي أمريكا تزوّج أوّلا ولم ينجح ثم ارتبط بعلاقة عشق مع برين ماور لمدة ثلاث عشرة سنة. «توفيت أمي.. فدفنت في أميركا التي كانت تتحاشاها دوماً وتكنّ لها كراهية أساساً». وبالتالي فإنّ اختيار إدوارد سعيد لبنان تحديداً ليعود إليه ويستريح رماده لا جثته، في أحضانه هي مسألة تستحقّ أكثر وأعمق من التغنّي بوطن أحبّه سعيد وفضّله على عداه، إنّه خيار يجد إجاباته أو يحاول أن يجد إجاباته في حياة تستحقّ أبحاثاً طويلة ومعمّقة لفهم المفكر الراحل ولكن أيضاً لفهم الشخصية العربية عموماً في تمزّقاتها وآلامها وتأرجحها بين شرقها الحميم المجروح والغرب المغري المذموم. لا توجد هوية صافية. وإنّما كلّ الهويات مركّبة من عناصرَ مختلفة وتراثات متغايرة. فمفهوم الهوية ليس ثابتاً ولا جامداً ولا نهائياً على عكس ما نتوهّم وإنّما هو حيوي، ديناميكي، يغتني باستمرار من عناصرَ ثقافية متجدّدة. وبناء على كلّ ذلك فإنّ سعيد يتوصّل إلى النتيجة التالية: وهي إنّه ينبغي تشكيل دولة ديمقراطية واحدة من النهر الى البحر تشمل الجميع من عرب ويهود لأنّهم ليسوا مختلفين عن بعضهم البعض إلى الحدّ الذي يتصوّرونه. فكما انّ الهوية اليهودية تحتوي على عناصرَ مختلفة من تراثات المنطقة، فإنّ الهوية العربية أو الفلسطينية هي أيضاً مركّبة من عدّة طبقات جيولوجية بدءاً من أقدم العصور وحتّى اليوم. وبالتالي فإنّ الآخر ليس مختلفاً عنّي بشكل مطلق ونهائي، على عكس ما تتوهّم الملايين، وكذلك دعاة الخصوصية أو الأصالة المطلقة. هكذا نلاحظ أنّ ادوار سعيد عرف كيف يستخدم فرويد لحلّ مشكلة معاصرة استعصت على الحلّ حتّى الآن. واعتقد أنّه فتح أفقاً للخلاص، على الأقل على المستوى الفكري أو النظري. بقي علينا أن نسير على دربه، وأن نستلهم انفتاحه الفكري الواسع، لكي نخرج من هذه الورطة الجهنمية التي وقعنا فيها منذ نصف قرن على الأقلّ.
أُنهي هذه الفذلكة بقول لإداورد: “دور المثقّف أن ينطق بالحقيقة بجلاء وبمباشرة وبأمانة قدر الإمكان. لا يفترض من المثقف أن يولي أيّ اهتمام لما يقال، فيما إذا كان يُربك ذوي السلطة أو يرضيهم أو يثير استياءهم”.
“The intellectual’s role is to speak up the truth, as plainly, directly, and honestly as possible. No intellectual is supposed to worry about whether what is said embarrasses, pleases, or displeases people in power