من مقالاتـــي:
أمس احتفلت عائلة الشاعر الصديق سعود الأسدي باليوبيل الماسي له (فقد صافحته خمس وسبعون سنة من العطاء والوفاء للأدب والفن)، وها هو ينتظر بإذن الله عمرًا مديدًا فيه العافية والارتضاء.
ورحلتي مع الشاعر رحلة طويلة، ومن يدري فقد أصحبها كتابة أيضًا! لكني هنا سأنبه الباحثين على دراسة نشرتها عنه في كتاب- "موسوعة أبحاث ودراسات في الأدب الفلسطيني الحديث"، الصادر عن مجمع القاسمي، باقة الغربية: 2012، ودراستي هي: "سعود الأسدي – شاعر النبض الفلسطيني"، ص239-259.
أما هنا فسأدعوكم لقراءة مقالة لي يحبها سعود ويذكّرني بها كلما احتدم بيننا نقاش الفصيحة والعامية. وهذه المقالة هي "الفصحى والعامية في حلبة واحدة" – نشرتها في كتابي "أدبيات" – مواقف نقدية، القدس- 1991، ص 175-179. ............................................. الفصحى والعامية في حلبة واحدة
في "سنة اللغة العربية" – كما اصطلحنا عليها– لا بد من التأكيد على أهمية اللغة الفصحى بالذات، على لغة الأمّة لا لهجة الأم. على اللغة التي توحد العرب، وتظل وعاء أفكارهم.
إننا نعرف حق المعرفة أن لهجة الأم هي الأوصل، ولها نكهة خاصة، وهي تنساب على لسان مبدع كسعود الأسدي عندنا، أو فؤاد حداد في مصر وميشيل طراد في لبنان. ومن هنا خطورتها بمعنى جديتها.
كنت في مهرجان شعري حاشد في الطيبة، وكنا ستة من شعراء وأدباء الفصحى، وكان بيننا صديقنا سعود. وتصوروا كيف كان الجمهور يصغي له وهو يقرأ قصائده التي تنتهي غالبًا بمُلحة. ومنها هذه القصيدة:
لاهيت ستي
وفتت عالوزاتها
ومن عب لوزة
مشقت جيبة لوز
ولحقت سمرا،
سارحة بعنزاتها
ولاعبتها الكمّوك
فرد وجوز ...
خوثتني خفة دمها
ولفتاتها
وخسرت معها
وكان إلها الفوز ..
أي قشقلتني
شاطرة بلعباتها ..
ومن بعدها
ظليت رايح دوز
دغري لستي
وفتت عالوزاتها
مشقت أخرى مرة
جيبة لوز !!
طغى الشاعر على الجو. وشعرت أن كلماتنا الفصيحة أضحت بحالة يرثى لها أمام جو الطرب والنشوة والألفة والحميمية التي بعثها في شعره العامي.
قال لي محاضر وهو يحاورني :
- أليس ما ذكرته عن مهرجان الطيبة مدعاة للتفكير من جديد في لغة الأدب، وكيف يجب أن تكون؟
قلت: إنك تذكر – ولن تنسى – لقاءنا في القاهرة مؤخرًا بالأستاذ المفكر محمود أمين العالم، وكيف أعترفَ بسبق الشعر الحديث المكتوب بالعامية المصرية، وصدقه في التعبير عن الخلجات والمواقف. ذلك أن الصياغة وفقت في التعبير تمامًا عن المضمون. ومع ذلك اتفق معنا أن ذلك ليس مبررًا لإنكار مسيرة الفصحى التي هي أولاً وقبلا.
- ولكن لماذا لا يكون هذا أدبًا معترفًا به ما دام يحمل شحنات الصدق الموضوعي والنفسي؟ - صراع العامية والفصحى ليس جديدًا. ونحن منذ كنا في الصف الأول ازدوجت لغتنا أجا = جاء ، قزاز = زجاج ... إن الطفل يترجم الفصيحة إلى وعيه. وهكذا حال الأدب، نكتبه أرقى، وليس بالضرورة مطابقة، لقد اعتدنا عملية التحويل التلقائي.
- ولكن بأية لغة يفكر الأديب أصلا؟ هل هو يفكر بالعامية؟
- لا أظن ذلك. إنه يفكر في حالة سيولة لفظية يترجمها بصدق تعبيرًا شخصيًا.
ومن هذه السيولة يبني مواده بالصورة التي يرتئيها. من هنا يمكن أن يكون التوافق النفسي مع الأداء اللغوي سواء كان فصيحًا أو عاميًا.
- ولكن ألا ترى أن الفصحى أقدر على التعبير أحيانًا؟
- إنني أوافق محمد مندور في قوله إن الفصحى أقدر على التعبير عن الفلسفة والعلوم والمسرحيات التاريخية والذهنية والخواطر العميقة، ذلك لأنها أغنى في مفرداتها. أما اللهجة العامية فهي فقيرة من هذه جميعها. ومع هذا فإنني أرى أن العامية إذا استخدمت بالصورة الملائمة في الأدب فقد تكون هي الأدب بحد ذاته.
- أذكر مقالة مندورالتي أشرت إليها وهي بعنوان " المسرحية بين العامية والفصحى والشعر" (مجلة "الكاتب" – القاهرة، نوفمبر 1963) في هذه المقالة رأي هام يقول إن واقعية الأدب لا تعني وجوب استخدام العامية. والكاتب هو الذي يقرر أية لغة يستعملها لشخصياته الروائية أو المسرحية، بشرط ألا يزيد ولا يزوّر.
هو يجعلها تنطق بلسان الحال، وليس شرطًا بلهجة عامية. ونحن نفهم واقعية نفسيته وحقائق حياته من خلال التعبير .
مرة أخرى: لا بد من التأكيد على أسبقية اللغة الفصحى بالذات. ولا أظن أن هذا بحاجة إلى إيضاح.
ومن شاء أن يجمع بين العامية والفصيحة فليفعل ذلك عند من لديه النضج والمسؤولية ومعرفة اللغة ووظيفتها الاجتماعية والسيكولوجية. وعندها لن يكون خطر، وإنما يكون إثراء وتلوين في التجربة مما يضفي حيوية وروعة.