ربما كان من الطبيعي أن أكتب اليوم قصة ذلك الخضر الذي من فلسطين، كما شهدت عليها، منذ بداية تحديه للقهر وحتى لحظة انتصار الحق على الباطل. القصة مثيرة وملأى بالمحطات الجديرة بالتدوين والحفظ. والرحلة كانت شاقة وطويلة ورافقتها مفارقات كثيرة ومتناقضات لافتة. فخضر بكفاحه، جرّد الحقيقة حتى العظم، وبمواقفه الحادة كشف النقاب عن عدة وجوه تسترت فيها، وأسقط كثيرًا من أقنعة الزيف والعهر. لكنني سأترك ذلك للوقت المناسب، وأكتب هناعن اليوم الأربعين في تلك الملحمة، وفيه تعرّفت إلى خضر، كما لم أعرفه من قبل، حين جلسنا لساعتين وحدّثني بلغته البسيطة الإنسانية عن أحلامه وآماله، عن أشواقه وآلامه. في ذلك اليوم تحدث الإنسان المجرَّد عمّا يوجعه ويستفزّه، وفي ذلك اليوم تيقّنت أنه لن ينكسر، لأنه، هكذا فهمت، يحتقر الموت ويعشق الحرية الصافية النقية، وكالعاشق الأبدي يعيش عند حافة الأمنية. أكره مشاهدة شاشات التلفزيون في ساعات الصباح، فأنا أحب صباحي عاريًا، ينسل إلى غرفتي أبيض يققًا، ليذكّرني أن النهار أبرص، حمّالٌ للمكائد وجلّاب مصائب، لا يتم فيه سرور ولا تكتمل فرحة. أفيق ليس كما كان يفيق الشباب، فالنوم، لمن بسني، مضيعة ويكون راحة على حساب فواتير مستقبل يتقاصر بتسارع مقيت. أجلس على كنبتي لأكمل قواعد شمس التبريزي الأربعين في العشق، وحين وصلت إلى الثانية والثلاثين توقفت مستحضرًا عالم جلال الدين الرومي، ذلك الصوفي الجليل، وهو يعلّم صديقه والناس قائلًا: "تعلم الحقيقة، يا صديقي، ولكن، احرص على ألّا تصنع من الحقائق التي تتكون لديك أوثانًا"، فالله يريدنا أن نكون معتدلين ومتواضعين. في الحارة سكون غير مألوف. لوهلة تبدو البيوت أمامي مهجورة، والشوارع لم تفق من ليلها، سوادها حالك نعس. من بعيد أسمع صوت مؤذن رخيم، وعلى حافة شرفتي تتهادى حمامة وتقف على بعد ذراعين مني، تتقافز بقلق، وأشعر أنها تعرف بوجودي، فكانت تدير طوقها صوبي وتنوح. لا تهدأ، كانت تتمايل بوجع، كأنها على ميعاد أخلفه وليفها. لم أحزن مثلها، فلقد طارت حين سمعت صدى بعيدًا لما يشبه الطلقة، وللحمام ذاكرة خارقة وقلب ضعيف لا يجازف. في التاسعة ما زال النهار يفتش عن أصحابه، ففي رمضان تصادق العبادة الكسل والعباد يصاهرونه، والحياة، كأنها تجرّعت حفنة من كبسولات دواء لإبطاء النبض وإخفاض الضغط في شرايينها. معظم الحوانيت ما زالت مغلقة، وأنا في سيّارتي أستمع لفيروز تشدو لسعيدها ولتلك الحمامة: "أنا وياك ..أنا وياك وحدنا يا ورد رح نبكي". وأسافر صوب مستشفى "أساف هروفيه"، لأقابل، للمرة العشرين في هذين الأسبوعين، الخضر الذي عاد ليصارع التنين. كان زادي في الطريق، الذي صار يألفني، ورد سعيد عقل وصرة من شوق وخوف، رغم اني تركت على أجفانه، في الليلة الماضية، ملاكين طفلين يحرسانه ويهللان كي ينام بلا أذية. أدخل إلى القسم الذي بات العاملون فيه يعرفونني جيّدًا، رئيس القسم يقابلني ببسمة ويبادرني مطمئنًا أن حالة صديقي مستقرة، والآن يضيف، صارت أفضل من حالته في الليلحيث قضاه يتقيّأ ويتوجع. يستفسر عن حل أحمله لأنهم يخشون من الأسوأ، فكل المؤشرات تؤكد أن خضرًا يواجه احتمالية الموت المفاجئ في كل يوم. يستقبلني على باب غرفته ثلاثة سجّانين، يبدو عليهم التعب ووجوههم فيها عبوس يؤمن لي سياجًا وبعدًا ضروريين، يكملون إجراءات إدخالي إليه، لأجده مستلقيًا على فراش من شوك. رغم صفرة واضحة على ما أبقته ذقنه من صفحة لوجهه، تطير ابتسامة، كابتسامة النرجس للصباح، وتستقر في قلبي، فأطمئن وأعرف أن هذا الفارس ما زال كالريح تتربع على صهوة الوقت. الرسالة وصلت: لا تخشَ يا أخي فنحن على ميعاد مع الحرية. أُسمعه موجزًا عن أخبار متفرقة، ونجري معًا تقييمًا لقضيّته. يسمع بإصغاء العاقلين ولطفهم ولا يقاطع، فهو صبور كالحق ومثله عنيد، هادئ كالفراش، ومتواضع. من شفتين متعبتين يكلّمني بصوت خافت، ويأخذ بين المقطع والمقطع جرعة من هواء وحياة. أحس أن كلامه يترك، في الغرفة، أثرًا لا يزول. واضح عندما يكون مقتنعًا برأي وموقف ومحاور ليّن عن اقتدار، ومستعدّ للاقتناع برأي أصوب من رأيه. اتفقنا على معظم التفاصيل وعلى الأهداف والتكتيك، وانتقلنا للحديث عن عوالم وقضايا أخرى. تحدثنا عن الحياة بين اعتقالين وتجربتين؛ تلك التي خاضها خضر في العام ٢٠١٢ حين أضرب ورافقته لمدة خمسة وستين يومًا، وحقّق وقتها، ما أراد، وعن هذه التجربة التي كنا في ذروتها. لقد مرّت أربع سنوات مثيرة على خضر. أصبح فيها أبًا لستة أولاد ونال ما ناله من كرم الله ونعمه، وبالمقابل عانى من الاحتلال وقمعه، ولكن أشد ما يؤلمه كان ظلم ذوي القربى، وهنا تحدث بمرارة واضحة وبتفاصيل لأحداث ما زالت جروحها نازفة في ذاكرته. "لا أعرف لماذا كل هذه المضايقات والملاحقات؟" تساءل مستطردًا: "أنا لم أحمل السلاح يومًا ولم أعتد على أحد، أومن بما أومن به وكل ما أرجوه أن يقبلني الآخر كما أنا، ولتبقَ بيني وبين الآخر، مهما اختلفنا، الكلمة والحجة والرأي والاقناع والمودة"، كان متعبًا وصار مرهقًا، فطلبت منه أن يتوقف عن الحديث، وتواعدنا أن نكمله، ربما في بيته قريبًا عندما يفرج عنه. خرجت من عنده أكثر إرادةً وتصميمًا على النجاح. لقد مضى على إضرابه أربعون يومًا، رفض فيها إجراء أي فحوصات طبية وأصر على شرب الماء خال من أي مدعمات حتى التي سمحت بها الأنظمة المقبولة دوليًا، كالملح وغيره. معه ثلاثة سجانين في غرفة معدّة لاثنين، وحتى في الليل ينام أحدهم على السرير، وأثنان يحرسون أحلامه كي لا تطير وتعدي الآخرين. يربطون ساقه ويده في السرير، ويتعمدون ربط ساقيه حتى عندما يحتاج إلى الدخول للحمام. قبل خروجي من عنده، نظر إلي ورفع كفه مستقدمًا كفي، وقال:"دعهم يتفننون بقمعهم، فهم لا يعرفون أنني ازداد صلابة كلما زادوا قمعًا"، وضحك بصوت عال، امتزج بفرقعة كفّينا في الهواء. كنت مؤمنًا بأن النهاية قريبة وأننا سننجح بإنقاذ خضر الذي سيحظى مرّة أخرى بحريته المكللة بالعزة والكرامة. بدأت، في طريق عودتي، بترتيب أفكاري وقائمة ما يجب أن أتابعه. قمت ببعض الاتصالات مع شخصيات فلسطينية افتقدها خضر وكان يتوقّع صوتها لصالح قضيته وأخرى انتظر حضورها إلى جانبه، فتحدّثت مع بعض أعضاء الكنيست وشخصيات أخرى، وطمأنت عائلته التي صارت منذ صحونا على ذلك الفجر في صفد قبل أكثر من ثلاثة أعوام، مثل عائلتي. إلى بيتي عدت في ساعة مساء متأخرة. شوارع القدس خالية، وكأن البلد في حالة منع تجوّل محكم. على كنبتي جلست وأكملت قواعد العشق الأربعين وحزنت، فكثيرون لا يعترفون أن الله أرادنا أن نكون معتدلين ومتواضعين.