نامت الناصرة على جرح. ملأت سماءها فراقيع فرح المنتصرين في حرب، ككل الحروب، لا تترك للفضيلة مكانًا ولا للمنطق فسحة. نامت على حلم وصوت من أهلها الصالحين يبشّر بسقوط "القلعة الحمراء" وميلاد ناصرة الطهارة والشموخ.
ترى في أي ليل كنّا، وكانت المدينة؟
ما زالت الجيوش على "سنجاتها" تتكئ وتلملم أهداب الندى، الكل ينتظر رحيل آخر الغبار لتبدأ، كما كان دومًا في آذار، طقوس الولائم احتفاءً بالأخضر القادم. لندع صباحها يغرق في بركات آذار الهاطلة شلّالات سماوية، والبعض سيحسبها دموعًا على ضياع "عرش" لم يصن.
في الناصرة أقفلت الستائر على عهد حافل من حياة الجماهير العربية التي تكبّدت وناضلت لتبقى وتحيا في موطنها الأصلي.
بعيدًا عن إغواء الهزيمة، أو نشوة النصر، لن يصحّ التطرّق لما حدث في الناصرة وقبلها في معظم قرانا ومدننا العربية من تغييرات واضحة على سيرورة التفاعلات السياسية الاجتماعية، بتعابير العاطفة والنقمة أو النشوة والانتقام.
ما يجري في داخل المجتمع العربي جدير بالبحث العلمي الموضوعي المسؤول. ما يحدث في الدولة من تفاعلات سياسية وتغييرات اجتماعية وتأثير ذلك على مستقبل الجماهير العربية في إسرائيل يستصرخ بدوره ذوي الشأن والعقل والحريّة ليشرعوا بعملية شاملة جذرية تؤدي الى تشخيص ما يحدث، ومن ثم ليجتهدوا بتوصيف طرق النجاة والسلامة.
اليوم، أكثر ممّا مضى، يتّضح أن عملية التصحيح المطلوبة لن تسعى إليها الأحزاب والحركات السياسية القائمة الفاعلة على الساحة السياسية، فلو نوت لفعلت ذلك منذ سنين، وكذلك بات واضحًا أن المؤسستين القياديتين الكُبريين غير قادرتين على هذه المسؤولية، هذا إذا افترضنا إن النيّة عند هؤلاء القادة موجودة في الأصل.
لجنة المتابعة العليا باتت أداة أسيرة بأيدي من حوّلوها إلى "دفيئة"، في حضنها يرتبون قوانين بقائهم في الحياة العامة، وهي لذلك لم ولن تنتج أي مشروع جامع يتعرّض لواقع الجماهير العربية، يستشرف رؤى لمستقبلها، ويحدد وسائل نضالها ومواجهتها لعواتي الرياح الهابة عليها، كما سأبيّن بعد قليل.
أمّا لجنة الرؤساء، فلقد أفرغت عمليًّا من مضامينها الوطنية الأصلية المؤسسة. ولدت هذه المؤسسة القيادية من رحم شعار وواقع استولدا قيادات وطنية، كشرط أساسي للقيادة، وهذه القيادات الوطنية تسعى لتأمين الخدمات المحلية والبلدية. لقد انطوى هذا الفكر، وهزمت، عمليًا، الوطنية بمعناها الشعبي السياسي الفطري العام، حينما كانت تعني عكس العمالة و"الذَنَبية". ونحن نشهد، اليوم، قادة أحزاب وحركات "وطنية" يصطفون في الطوابير كي يعلنوا البيعة والدعم لمرشح "أمّيّ" في الوطنية، وحتى فترة قريبة كانت علاماته عند أولئك القادة؛ في السياسة والنزاهة والدين والانتماء، كلّها تراوح بين راسب ويكاد يكفي.
لن يجدي الاعتماد على وسائل التفكيك التقليدية لدراسة ما جرى في مجتمعاتنا من تحوّلات سياسية واجتماعية، فجداول الإحصاء والنسب وما إلى ذلك من رسومات بيانيّة قد تقنع المانحين والداعمين، ولكنّها لن تغنينا بتشخيص صحيح ولا بنصيحة تشفي. نحن بحاجة إلى محللين وباحثين متمكنين، يتمتعون بالجرأة قبل كل شيء، وبالموضوعية والنزاهة. وبحاجة لدارسين لا يخشون سطوة عقد العمل مع مؤسستهم أو جامعتهم، ولسنا بحاجة لمن تصرّفوا كجنود صغار تخندقوا وراء ذلك الشيخ أو زعيم القبيلة.
واقع الجماهير العربية، بعد ستة عقود ونصف من عمر إسرائيل، يختلف، بكل حيثياته، عمّا كان سائدًا في سنوات بعد النكبة. من هنا فثمة ضرورة لتحديد مفاصل ومفاعيل علاقة الجماهير العربية بالدولة ومؤسساتها، حيث أنها بحاجة لعملية "نفض" جذرية. والتشبث بالخطابات السائدة منذ فترة التكوين بحاجة الى إعادة تقييم ونظر، ألا يكفي أن نشاهد كيف وأين وقف معظم قادة الجماهير العربية، ولمن هتفوا في الانتخابات المحلية والبلدية لنعي هزيمتهم وهزال مبدئيتهم!
لقد دعوت الى ضرورة الاتفاق على تحديد ما يواجهنا من مخاطر وتحدّيات، وما زلت أدعو إلى التنبّه لما يجري على ساحة الدولة وما تنتجه التطورات السياسية المتفاعلة هناك، إنّه منزلق خطير ومن يحسب أننا في بحبوحة من وقت، وأن النباح لن يتلوه عضٌّ فهو خاطئ ومهمل.
ما يتشكّل أمام أعيننا هو نظام سياسي ينزع إلى جوهرٍ فاشي- كما يعرّفه علم الاجتماع السياسي؛ فسيادة الجيش وهيمنة العسكرة تستفحل وتتحكم في توجيه سياسة الدولة، ومثلها التعامل شبه المرَضي فيما يدعى "بأمن الدولة". ثم إن العلاقة الوثيقة بين المؤسسة الحاكمة والمؤسسة الدينية هي ركيزة أساسية لنظام الحكم القائم، وكذلك فإن دفاع الدولة عن الشركات الكبرى والعلاقة بين السلطة ورأس المال واقع متين وواضح، وها نحن نشهد ضعف نقابات العمال وإضعافها المستمر، غطرسة المشاعر القومية والاستهتار بحقوق الإنسان، وأصبح الاعتداء على الحرّيات الأساسية ظاهرة يومية مقلقة، حيث نلاحظ الإجماع على استعداء هدف، وإيجاد أكباش فداء على شاكلة أقليات قومية أو فئات مستضعفة يتحقق أمامنا، فنحن العرب ضحايا تلك الاعتداءات والمتسلّلين الملوّنين والعاجزين وغيرهم، سيطرة إعلام مجنّد وغير موضوعي وفاقد للمهنيّة الإعلامية المحايدة، وفساد متفشٍّ في جميع منظومات الإدارة والحكم. وأخيرًا، وحتى تكتمل الصورة ويربوالقلق على أكثر من صعيد، نرى انقضاضًا على الحرّيات الأكاديمية وملاحقة الأكاديميين اليساريين وتعريفهم كأعداء دولة.
بمثل ذلك شخّص العلماء نظام حكم ينزلق في منحدر الفاشية؛ فلماذا يصمت علماؤنا ويتجاهل قادتنا؟
أخوات الناصرة سقطن قبلها والنواطير غارقون في أحلامهم.
أفيقوا من حلمكم واسألوا: من نحن بعد ليل الغريبة؟
فَـ "أنا أنهض من حلمي خائفًا من غموض النهار على مرمر الدار/ من عتمة الشمس في الورد/ من حاضر لم يعد حاضرًا/ خائفًا من مروري على عالم لم يعد عالمي/ أيّها اليأس كن رحمة/ أين الطريق إلى أي شيء؟".
التاريخ أخرس، لكنّه يترك وصيّته والجراح، فاقرأوا يا عرب!