أدونيس له موقفان
-
ظاهرة التنكر السهل للمبادئ الشعرية والأدبية الأولى- ظاهرة مألوفة في أدبنا بدءًا من أبي نواس، ومرورًا بالعقاد، فنازك الملائكة، وانتهاء بأدونيس.
يسأل الكاتب سليمان الحكيم الشاعر أدونيس ضمن حوار معه:
“ – ما رأيك في” قصيدة النثر”؟
-
ليس هناك شيء اسمه” قصيدة نثر”، فالقصيدة شيء، والنثر شيء آخر..
-
ولكنك كنت واحدًا من روادها والداعين إليها.
هذا خطأ شائع. فأنا لم أكتب ما يسمى بقصيدة النثر، بل كتبت نثرًا شعريًا، والتراث مليء بالنثر الشعري”.
(مجلة” سطور”، العدد الأول، ديسمبر 1996، ص 7)
قبل أن أدلي بدلوي تعالوا بنا إلى كتاب” سياسة الشعر” لأدونيس (دار الآداب، 1958، ص 73 ) ولنقرأ:
“هكذا عملت على ان أدخل إلى الشعرية العربية مفهومات جديدة، أصبحت اليوم تشكل أجزاء عضوية منها...أهمها والأول هو قصيدة النثر، وحين أطلقت هذه التسمية سنة 1960 ... هوجمت هجومًا حادًا اتخذ طابعًا سياسيًا قوميًا... لكن على الرغم من ذلك تكاد اليوم ”قصيدة النثر” أن تكون الطريقة التعبيرية الغالبة خصوصًا لدى الشعراء الشبان،بل تكاد أن تتحول عند بعضهم إلى نوع من الحماسة الفنية العصبية...”.
ويذهب أدونيس في أكثر من موقف إلى أن الشعر شعر، ولا يجب أن يقرر الشكل في صحة ذلك أو عدمه.
ثم لنقرأ ما كان أدونيس قد قاله قبل ذلك في”مقدمة الشعر العربي”- ( بيروت- 1971، ص 116):
“ في قصيدة النثر، إذن، موسيقى. لكنها ليست موسيقى الخضوع للإيقاعات القديمة، بل هي موسيقى الاستجابة لإيقاع تجاربنا وحياتنا الجديدة، وهو إيقاع يتجدد كل لحظة، تتضمن القصيدة الجديدة نثرًا أو وزنًا مبدأ مزدوجًا- الهدم لأنها وليدة التمرد، والبناء لأن كل تمرد مجبر ببداهة إذا أراد أن يبدع أثرًا يبقى أن يعوض عن تلك القوانين بقوانين أخرى”.
واعترف أدونيس أن” قصيدة النثر” تكون فيها طرق التعبير وطرق استخدام اللغة – جوهريًـا شعرية- وإن كانت غير موزونة، وهو يرى أن الصوفية العربية،وبشكل خاص كتابات النفّري فيها هذه الشعرية.
تابعت” المخاطبات والمواقف” للنفّري فما وجدت- شخصيًا- شعرًا، بل وجدت إلماعات/ إيماضات قد تكون فلسفية منطقية، أو هي ذات جمالية أدبية متشحة بالرمزية، وإنني لأعجب حقًا من هؤلاء الذي يجعلون كلاً من النفِّـّـري ومن جبران- فيما بعد وبكتاباته النثرية المحضة - شاعرًا، فهل هو شعر قول النفري مثلاً:
“وقال لي احتجب عن العلم بالجهل، وإلا لم ترني ولم تر مجلسي، واحتجب عن البلاد بالعلم، وإلا لم تر نوري وبيتي”( كتاب المواقف، ص 106) ؟
أو هل شعر قول جبران:
“يا ليل العشاق والشعراء والمنشدين
يا ليل الشوق والصبابة والتذكار
أيها الجبار الواقف بين أقزام غيوم المغرب وعرائس الفجر...”.
( المجموعة الكاملة لجبران ج 1، ص 373 ).
ألا نرى في النص الأول مبنًى نثريًا ارتباطيًا، ونرى في النص الثاني ترادفًا وتتابعًا نثريًا محضًا؟
ومع أني أتحفظ من بعض ما ينشر تحت اسم” قصيدة النثر” إلا أنني أندهش من روعة بعض قصائدها لمبدعين حقًا فيها، بل ألفيت نفسي مضطرًا لكتابة بعض قصائد منها لحالات اضطرارية كان الوزن التقليدي انشغالاً عنها، أو ثقلاً عليها (وهذا له حديث أو موقع آخر).
وأراني مسوقًا للدفاع عن بعض مقولات أدونيس التي أوردها في كتابه” زمن الشعر” (دار العودة – 1978، ص 16) حيث يمايز الكاتب بين النثر والشعر، وكأني به هنا يردّ على أدونيس في حلته الجديدة.
إن الصورة من أهم العناصر في القصيدة، وطريقتها في التعبير والدلالة هي التي تحدد نوعيتها...
إنها خالية من الوصف التقريري والتتابع والسببية المباشرة والوضوح المجرد، فمن أهم الخصائص في القصيدة – ولا يهم نوعها – الإثارة والمفاجأة والدهشة.
وبالطبع فهذا لا يبيح ولا يتيح للعاجزين عن الحلم والتخيل أن يصلوا إلى” المحطة” سواء كانوا كتابًا حقيقيين،أو متلقين.
وفي الختام أظن أن السؤال الجوهري الذي يظل مطروحًا ويجب أن يُستـثار هو:
كيف ترقى قصيدتنا اليوم ؟ أو كيف نؤسس شعرية متطورة بحق وألفة؟!!
........................................................................
نشرت في كتابي "تمرة وجمرة" ط 2. باقة الغربية: دار الهدى- 2005، ص13- 17