الحداثة مصطلح يدل على منهج فكري ومذهب اجتماعي في الحياة والسلوك
لندن: «الشرق الاوسط»
حرصت جمهرة كبيرة من العلماء على تقديم دراسات وأبحاث لمعالجة قضايا فقهية معاصرة، وإنه بحكم التطورات الجديدة في عالم الدراسات الفقهية نحت ثلة من العلماء والفقهاء الى تقديم دراسات حول الحقوق الدولية في الاسلام، والغزو الفكري، ودور المرأة في تنمية المجتمع الإسلامي، والإسلام في مواجهة العلمانية، والإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة، وحقوق الطفل والمسنين وحقوق الانسان في الاسلام، والنظام العالمي الجديد والتكتلات الاقليمية، واسلامية مناهج التعليم، والخطاب الاسلامي ومميزاته ونحو ذلك.
وقد أردنا تعميم الفائدة في هذه القضايا للمتطلع الى معرفة أفكار الدارسين والعلماء لها فأحببنا أن نقدم لقراء «الشرق الأوسط» مجموعة من هذه البحوث من رصيد دورات مجمع الفقه الاسلامي الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي.
د. ناصر الدين الأسد *
- الحداثة مصطلح يدل على منهج فكري ومذهب اجتماعي في الحياة والسلوك، والمصطلح، كل مصطلح، إنما هو وعاء لفظي في داخله مفهوم محدد، لا يجوز نقله الى مفهوم غيره الا باستعمال مصطلح آخر، فالحداثة اذن ليست كلمة عامة يقصد بها الجدة والتطور في كل عصر عن العصر الذي سبقه، فتختلف بذلك سماتها ومظاهرها وعناصرها باختلاف العصور، فالتجدد والتطور في العصر الأموي، في الحياة عامة، لهما من السمات والمظاهر ما يختلف عن عصر الراشدين، ثم ما يختلف عن العصور العباسية وما تلاها من عصور. وقد اختلط معنى مصطلح (الحداثة) في اللغة العربية في بدء استعماله ودورانه على الأقلام والألسنة بمعنى الجدة، وربما كان سبب ذلك أن الوصف منها هو (حديث)، فقالوا: (العصر الحديث)، و(الشعر الحديث)، فظنوا أن هذا الوصف منصرف الى معنى (الجديد)، أو هذا الذي نحن فيه الآن، وربما جعلوه بمعنى (المعاصر)، وقالوا ان لكل عصر جديده أو حديثه، مرددين قول الشاعر:
إن ذاك القديم كان حديثاً وسيغدو هذا الحديث قديما
ومن أجل رفع هذا الالتباس أصبح بعض كتابنا في هذه الايام يستعملون صفة (الحداثي) بإضافة ياء النسبة الى المصدر، وربما زادوا في التوضيح فقالوا (الحداثية) ـ باستعمال المصدر الصناعي ـ للتفريق بينها وبين (الحداثة) بمعنى الجِدَّة، ثم أغرب بعضهم فاستعملوا للمصدر لفظة (الحداثوية)، وللصفة لفظة (الحداثوي). كل ذلك ليثبتوا لهذا المصطلح انفراده بمعنى خاص، وامتيازه عن غيره.
فما هي إذن هذه الحداثة التي اختلف كثير من الناس في فهمها، وحاروا في ادراك مقوماتها أو عناصرها؟ ولا بد لنا قبل أن نمضي في الكلام عن الحداثة من أن نشير إلى أنها ـ في أصلها ـ ترفض التحديدات والتعريفات وصياغة النظريات العامة واصدار الاحكام القاطعة.
من أجل ذلك لا نكاد نجد في المراجع التي تبحث في الحداثة، تحديداً واضحاً أو تعريفاً شاملاً لها، وانما نجد فيها تناولاً عاماً لبعض صفاتها أو مرتكزاتها أو مظاهرها او آثارها، وهو ما سنتطرق اليه في الصفحات التالية، وربما كانت هذه التعميمات الفضفاضة لمدلول الحداثة من أسباب الاختلاف في فهمها وتفسيرها، حتى لقد قيل إن لكل بلد حداثته،ومع ذلك وقعت الحداثة ـ في الممارسة والتطبيق العملي: في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والثقافة ـ في ما رفضته نظرياً، وفي ما يخالف مبادئها ومنطلقات أفكارها. فشهد القرن العشرون ـ مع التقدم العلمي والتكنولوجي ـ أقسى أشكال التحكم السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، في الشيوعية والرأسمالية والنازية والفاشية والصهيونية. وقد قامت كلها على اساس الاحكام القاطعة التي لا تقبل بغيرها، ولا تسمح بالرأي الآخر، وعلى أساس الفردية المطلقة، واهدار قيم المجتمع، واغتصاب حقوق الآخرين، واحتلال اراضيهم، وتعذيبهم وقتلهم فرادى وجماعات، واستلاب اللغات والثقافات. وانتهت الحداثة الغربية بتقدمها العلمي والتكنولوجي الى افساد البيئة وتلويثها، والعبث بالطبيعة، واستنزاف الموارد الخام ونهبها، واستفحال الاستعمار، واستعباد الشعوب وتدمير كوامن القوة فيها، وإن كانت تدعي نقيض ذلك تحت شعار الديمقراطية وحقوق الإنسان، وسواهما من الشُّعُر الزائفة التي تكيل بمكيالين، والتي تستعمل المقاييس المزدوجة. من أجل هذا كله أصاب الفزع كثيراً من أحرار المفكرين والمثقفين، فأعلنوا انتهاء الحداثة وسقوطها واستنفادها أهدافها التي نادت بها في البدء، ونادوا بشعار جديد هو (ما بعد الحداثة).
ولا يزال هذا الشعار يكتنفه الغموض، لكنه لا يغدو أحد أمرين عند هؤلاء المنادين به: فبعضهم يرى أنه تهذيب للحداثة وتليين لها بعد ان اصابها الجفاف فقست واصابت البشرية بكثير من الكوارث الطبيعية والانسانية، وكانت العامل وراء هذه الحروب العالمية والمحلية، وفي انتشار المجاعات والأمراض، بسبب خلوها من الروح، فهي محتاجة الى تطعيم (ماديتها) المغرقة بقدر من المعنويات والروحانيات لتكتسب جانباً انسانياً يخفف من فرديتها وجمودها وأنساقها المغلفة.
ويذهب فريق آخر الى انكار هذا الشعار الجديد، والى تأكيد أن الحداثة ليست محدودة بزمن أو عصر حتى يقال انها انتهت أو سقطت، أو يقال ان حقبة اخرى ستتلوها هي حقبة ما بعد الحداثة. وموضوع بعد الحداثة لا يدخل في عنوان دراستنا حتى نفصل القول فيه، ولذلك نكتفي بهذه الاشارة العابرة اليه، وربما تساءل بعضنا ساخراً: وهل دخلنا مرحلة الحداثة حتى نتحدث عن مرحلة ما بعد الحداثة؟
ولا يزال كل هذا الذي ذكرته من تقديم بين يدي الموضوع يحتاج الى مزيد من التوضيح ـ على ما بذلت من جهد لتخليصه وتلخيصه ـ ولا يتأتى هذا التوضيح المطلوب إلا بعد ان نتحدث عن طبيعة الحداثة وجوهر أفكارها ومبادئها.
والحداثة الغربية نتاج الثقافة الغربية والفكر الفلسفي الغربي، وقد بدأت معالمها تتضح بالتدريج منذ القرن السادس عشر الميلادي، ثم اخذت تنمو وتتدرج في صور الحياة الغربية المختلفة، حتى أصبح الغربيون ينسبون اليها اسباب تقدمهم وازدهار مراحل حضارتهم خلال هذه السنوات الأربعمائة.
والارتباط وثيق بين الحداثة والعلمانية أو الثورة على الكنيسة ـ خاصة الكاثوليكية في الفاتيكان ـ وحركات الاصلاح الديني عند مارتن لوثر (1483 ـ 1546م)، وجون كالفن (1509 ـ 1564). وقد كانت تلك العلمانية في بدء أمرها تحرراً فكرياً من سيطرة الكنيسة ونفوذ رجال الدين من الكهنوت، واحتكارهم للعلم والمعرفة، وحجرهم على العقول واضطهادهم للعلماء من غيرهم، واقامة انفسهم وسطاء بين الله والناس، يحكمون عليهم بالكفر والحرمان من الجنة، أو يقبلون توبتهم ويمنحونهم صكوك الغفران. فكانت حركات الاصلاح الديني ودعوات المفكرين تنادي برفع تحكم رجال الكنيسة في الفكر ووصايتهم على العقول، وترك العلاقة بين الله والناس مباشرة مفتوحة، فهو وحده الذي يحكم بالحرمان أو الغفران. حتى ذهب بعض العلماء الى ان تلك الحركات والدعوات، كانت متأثرة بما كان شائعاً بين العلماء والمتعلمين في أوروبا من المعارف الاسلامية، ومن تعاليم القرآن الكريم وكتابات المفكرين والفلاسفة المسلمين.
وقد اقاموا الدليل على ذلك بقدوم اعداد من هؤلاء المتعلمين الى الاندلس للدراسة في المدارس وحلقات العلم هناك، ومنهم عدد من الرهبان الذين اصبح احدهم بابا الكنيسة الكاثوليكية، وهو (سلفستر الثاني) في سنة 999م، وكذلك استدلوا بكثرة الترجمات للقرآن الكريم ولكتب بعض هؤلاء العلماء والفلاسفة المسلمين من أمثال: الكندي وابن سينا والغزالي وابن رشد والحسن بن الهيثم وغيرهم كثير، وقيام اتصال وثيق بين المسلمين والأوروبيين في أثناء حروب الفرنجة (الحروب الصليبية)، ومن خلال السفراء والأسرى بين الجانبين، وكان منهم علماء وفلاسفة تدور بينهم جميعاً محاورات دينية يعرض المسلمون من خلالها الاسلام.
ولكن هذه النشأة التاريخية ما لبثت ان مرت في مراحل من التطور، فأصبحت الثورة على الكنيسة ورجال الكهنوت ثورة على الدين نفسه، وكفراً به، إلى أن قال (نيتشه) (1844 ـ 1900) قولته المشهورة: «قد مات الإله»، وأصبح تنظيم شؤون الحياة والناس لا علاقة له بتعاليم الدين، وراج شعار «الانسان يصنع تاريخه». وربما كان هذا التغير في موقف العلمانية ومعناها هو السبب في الاختلاف في فهم كثير من الناس لها وفي موقفهم منها. فإن فهمت على المعنى الأول فنحن ـ المسلمين ـ معها، اذ لا كنيسة عندنا ولا كهنوت، وان فهمت على المعنى الثاني فهي منافية للدين منكرة لله عز وجل، ولا يقبل بها مسلم مؤمن. وهذا الذي ذكرناه عن العلمانية هو الحداثة بعينها، وهو يدخلنا فيها من أوسع أبوابها، ذلك أن ما قاله (نيتشه) وما ذكرناه من أن «الانسان يصنع تاريخه» هما من أسس الحداثة وركائزها. بل لقد ذهب بعضهم الى ان تعريف الحداثة: هو ان «الانسان يصنع تاريخه» مع تأكيد كلمة (الانسان) وأن «هذا القول بمثابة شهادة ميلاد الحداثة، وتحديد مجال تساؤل الفكر الاجتماعي»، وحتى نستكمل توضيح هذا العنصر العلماني من عناصر الحداثة نحتاج الى ان نستمر في اقتباس عبارات من أصحاب هذا المذهب، فأحدهم مثلاً يتساءل: «هل أصبح من الممكن ربط مختلف انجازات المعرفة الفرعية ودمجها في تفسير موحد للواقع الاجتماعي ككل؟» ويجيب بقوله: «للاجابة على هذا السؤال طابع فلسفي بالضرورة، لقد كان لاجابة جميع فلسفات العوالم القديمة ـ أي السابقة على الحداثة الرأسمالية ـ طابع ميتافيزيقي صريح. فكانت هذه الفلسفات تؤكد ان هناك نظاما يحكم الكون ويفرض نفسه على الطبيعة والمجتمعات والأفراد، فأقصى ما كان يمكن ان يحققه البشر ـ فرادى وجماعات ـ انما هو اكتشاف اسرار هذا النظام، بواسطة صوت الانبياء، وادراك مغزى الاحكام الميتافيزيقية المضمرة، فالطاعة لها».
ثم يقول: «نشأت الحداثة عندما تخلى الفكر الفلسفي عن هذا الارث، فدخل البشر في فلك الحرية ومعها القلق، وفقد الحكم طابعه المقدس، وصارت ممارسات الفكر العقلاني تنعتق من الحدود المفروضة عليه سابقاً. فأدرك الانسان منذ هذه اللحظة انه هو صانع تاريخه، بل ان العمل في هذا السياق واجب، الامر الذي يفرض بدوره ضرورة الخيار. انطلقت الحداثة ـ إذن ـ عندما أعلن الانسان انعتاقه من تحكم النظام الكوني. وارتأى ـ واشارك العديد من الآخرين في هذا الرأي ـ أن هذه القطيعة كانت أيضاً لحظة تبلور الوعي بالتقدم. فالتقدم ـ في مجال إنماء قوى الانتاج، أو في مجال تراكم المعلومات العلمية الجزئية ـ ظاهرة موجودة منذ الأزل. ولكن الوعي بالتقدم، أي الرغبة في انجازه وربطه بالتحرر، إنما هو شيء آخر، حديث النشأة. من هنا أصبح مفهوم التقدم وثيق الصلة بالمشروع التحرري، كما أصبح العقل مرادفاً للتحرر والتقدم».
ثم يقول: «ليس هناك تعريف آخر للحداثة ـ في رأيي ـ غير هذه القطيعة الفلسفية». ومما يزيد الأمر وضوحاً تلك الدراسات الأوروبية في موضوع علم الاجتماع الديني، خاصة في فرنسا. ومن الدارسين الذين بحثوا هذا الموضوع الباحثة الفرنسية دانيال هير فيوليجيه، التي تناولت العلاقات المتشابكة بين الدين والحداثة والعلمانية، فهي تقرر ان الحداثة كانت تتصور انها مسار تاريخي طويل للتحرر من اسار الدين، وذلك بتضافر ثلاثة ابعاد كبيرة أولها: تأثير العقلانية، والتركيز على العلم والتكنولوجيا، مما يجعل الانسان ينظر الى الكون من منظور علمي بعيد عن الرؤى الدينية للعالم التي كانت تقدمها الأديان الكبرى.
وثانيها: ان جوهر الحداثة يتركز في استخلاص الفرد الفاعل المستقل من اطار السياقات الاجتماعية الكلية التي كانت تذيب فرديته، كالقبيلة والأسرة الممتدة وعضويته في الحرف التقليدية. وبذلك أصبح الفرد قادرا على أن ينتج بنفسه معايير الخير والشر ومرجعياتهما، ويحدد توجهاته المستقلة، من خلال النقاش الحر مع أمثاله من الأفراد الفاعلين، حول المعنى الذي يريد ان يضفيه على العالم. وهذه الاستقلالية من شأنها ـ من دون أدنى شك ـ ان تحقق على حساب تراث الديانات السماوية الكبرى التي درجت على فرض القوانين التي تحكم حياة الناس من الميلاد حتى الموت.
أما البعد الثالث: فيتعلق بسمة أساسية من سمات المجتمعات الحديثة وهي تخصص المؤسسات وتميز كل واحدة منها عن الأخرى، مما يجعل كلاً من النسق السياسي والثقافي والاقتصادي والديني ومن الحياة الخاصة دوائر منفصلة، بحيث توقف النسق الديني عن فرض قواعده على القطاعات الأخرى. فالنظام السياسي في المجتمع الحديث ـ بتأثير العلمانية ـ تخلص من تأثير النسق الديني تحت شعار الفصل بين الدين والدولة، كما أن القطاعات الاقتصادية، وحتى الثقافية، انطلقت بعيداً عن التوجهات الدينية الصارمة التي رأى فيها انصار الحداثة قيوداً تكبل انطلاقة المجتمع تجاه التقدم. وهكذا نجد في ظل هذا التصور الحداثي وفي ضوء المسيرة التاريخية الفعلية، أن علم الاجتماع الديني كاد ينحصر في دراسة ظاهرة الازاحة للدين في المجتمعات الحديثة، وتتبع وتيرة الازاحة وتنويعاتها الوطنية في مختلف المجتمعات. وحين نعيد النظر في ما عرضناه في الصفحات السابقة لنستخلص منه عناصر الحداثة وركائزها من أجل أن نصل الى توضيح لها بذكر صفاتها وماهيتها وليس بتعريف لفظ يحددها، نجد لها العناصر والمقومات التالية:
أولها: حرية التفكير والتعبير، وحرية البحث و«الشك في ما هو قائم، واعادة التساؤل في ما هو مسلم به». ونزع المقدس من أي فكرة تعتقدها البشرية، وذلك رد فعل لاحتكار الكهنوت للمعرفة والعلم، وتحكمهم بعقول العلماء والمفكرين، على ما فصلنا القول فيه.
وثانيها: تحكيم العقل في كل ما يتصل بالانسان وكل ما يعرض له، فيقبل ما يقبله عقله ويرفض ما لا يقبله. وانتهى الأمر الى تأليه العقل، وانكار الغيب، ونفي الوحي، وعدا من الخرافات، حتى انهم ابتدعوا تعبير (ثقافة الخرافة)، ولم يستطيعوا أن يفرقوا بين الغيب والوحي وبين الخرافة، على ما سنبينه في صفحات تالية، ومن هنا نشأ الاعتقاد بأن الحداثة تدعو الى القطيعة مع الماضي ومع التراث، وهو اعتقاد صحيح اذا حُصِر في القطيعة مع انماط التفكير واساليبه، ومع التراث الديني المسيحي ونصوصه.
وثالثها: الأخذ بالعلم ومناهجه، بعيداً عن تصديق تعاليم الدين واحكامه مما لا يخضع لقوانين العلم وتجاربه، وأصبح الإنسان هناك يحس بأنه سيد مصيره وصانع تاريخه، فسادت العقلانية المادية التي صورت للإنسان قدرته الغالبة على الكون والدين (الكنيسة) ونبذ الغيبيات. وكان كل ذلك بسبب نتائج التقدم العلمي والتكنولوجي منذ أن تحرر العقل الأوروبي من ربقة قيود الكنيسة، وانطلاقه في فضاء رحب لارتياد المعرفة في الأرض والبحر والجو.
ورابعها: الايمان بفكرة التقدم. وخلاصتها ان الانسانية تسير دائما الى الأمام من عصر الى عصر، وان كل عصر تال لا بد ان يكون اكثر تقدماً وافضل للناس من العصر الذي سبقه، فالحاضر افضل من الماضي، والمستقبل افضل من الحاضر. والتقدم بهذا المعنى أمر حتمي. على حين كان الناس قبل القرن السادس عشر يمجدون الماضي، ويرون ان العصور السابقة كانت افضل من الحاضر، وان كل عصر أسوأ من العصر الذي قبله، ومن هنا نشأت فكرة تقديس الماضي، واصبح كثير من الناس يحنون الى الأيام الفاضلة السعيدة Good old days. وفكرة التقدم ترتبط ارتباطاً وثيقاً بفكرة التطور، فقد «كان العقل البشري في عمومه يعتقد أن للأشياء ـ وضمنها الأفكار، والمرجعيات والقيم والايديولوجيا والمبادئ ـ حقائق ثابتة أزلية أبدية. وقد سمى الفلاسفة القدماء وربما أيضاً المحدثون، هذه الثوابت: جواهر، أما ما قد يطرأ عليها من تغيرات ظاهرة، فهي ـ كما سموها ـ مجرد أعراض لتكل الجواهر».
وهذا يعني ان لتلك (الجواهر) ستظل على حالها الثابتة منذ بدء العالم الى نهايته من دون تغيير أو تطوير. ثم جاء تصور عقلي جديد جعل (التغير) مكان (الثبات)، وانتهت بذلك مرحلة التفكير المطلق، وبدأت مرحلة التفكير النسبي «الذي ينظر الى كل شيء على انه متغير ونسبي».
وذهب بعضهم الى ان التقدم والحضارة وقف على أوروبا، ومن هنا سادت نظرة التعالي الأوروبي الى البلاد الأخرى (المتخلفة)، وخاصة بلاد آسيا وافريقيا، وكان ذلك سبباً من أسباب حركة الاستعمار الأوروبي، اذ كان الاعتقاد انه من حق تلك البلاد المتقدمة ان تستخدم سكان البلاد المتخلفة وتستعبدهم، وتستثمر مواردهم وتستنزفها لخير الانسانية المتحضرة، وقد ادعى بعض ساستهم ان تلك البلاد الآسيوية والافريقية لم تبلغ سن الرشد بعد، وان الاستعمار هو وسيلة الاخذ بيدها الى الترقي والتحضر.
وخامسها: تمجيد الفردية Individualism التي أخذت تنمو، خاصة بعد الثورة الفرنسية في اواخر القرن الثامن عشر الميلادي، فـ «الفكر والنظام السياسي والاجتماعي الغربي قام على اساس مفهوم واحد مقدس هو الفردية، الذي يضمن للفرد السعي نحو تحقيق مصالحه، بغض النظر عن الوسائل التي يستخدمها لتحقيق هذه الغايات. وفي حال حدوث تضارب بين مصلحة الفرد والمجتمع فإن مصلحة الفرد هي التي تعلو على ما سواها. ومن هذا المفهوم تفرعت كل الافكار والقيم الغربية المتعلقة بالحرية الفردية والمبادرة الذاتية التي لا تحدها حدود، ولا تكبلها ضوابط وقيود».
- وزير التعليم العالي الأسبق ورئيس المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية في الأردن
الإسلام في مواجهة الحداثة الشاملة (2 ـ 2)
لم يقتصر الإسلام على التجاوز عن خطأ المخطئ والصفح عنه إنما كتب له الحسنة والثواب حين يخطئ وهو يبحث عن الحق
لندن: «الشرق الأوسط»
استعرضت جلسة امس مفهوم الحداثة كمصطلح يدل على منهج فكري ومذهب اجتماعي في الحياة والسلوك، والمصطلح انما هو وعاء لفظي في داخله مفهوم محدد، لا يجوز نقله الى مفهوم غيره إلا باستعمال مصطلح آخر، كما تطرق الدكتور ناصر الدين الاسد في الجزء الاول من بحثه الذي نشر في جريدة «الشرق الاوسط»، ضمن مجموعة من بحوث هي جزء من رصيد دورات مجمع الفقه الدولي التابع لمنظمة المؤتمر الاسلامي، الى ان الحداثة ليست كلمة عامة يقصد بها الجدة والتطور في كل عصر عن العصر الذي سبقه.
وفي حلقة اليوم يتناول الباحث ابعاد الحداثة السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية بالتحليل والدراسة، حيث ركز على الجانب الايجابي لهذه الابعاد المتعلقة بالتقدم والنهضة.
قامت «حقوق الانسان» على اساس فلسفي ومذهبي من الحرية الفردية. وكانت المغالاة في هذه الحرية واحترامها تعبيرا عن رد فعل لما كان يعانيه الفرد من اغلال القرون الوسطى الاوروبية في ظل انظمة الحكم المطلق والاقطاع والكنيسة. وقد اتاحت هذه الحرية الفردية الانطلاق الى بناء المجتمع الغربي الحديث الذي يمارس فيه الفرد استقلاله وحريته ودوره في الابداع والتقدم والتميز واقامة الدولة المدنية الحديثة. لكن المغالاة في هذه الحرية الفردية بلغت مبلغا تمثل في اباحة كثير مما كانت الشرائع السماوية والمجتمعات لا تبيحه، مثل: اباحة المخادنة (مع منع تعدد الزوجات الشرعيات)، واباحة الزنى واسقاط عقوبته حتى عن الزوجة، والسماح بالتزاوج بين افراد الجنس الواحد: بين الذكور والذكور وبين الاناث والاناث، وتخفيض السن المسموح بها لهذا التزاوج المثلي او المعاشرة والمعايشة المثلية الى الثامنة عشرة، بل دونها! وغير ذلك من مظاهر الحياة والسلوك التي انتهت اليها الحرية الفردية مما يستهجنه كثيرون حتى في الغرب نفسه، اذ ليس من شك في ان عندهم عشرات الملايين من المؤمنين المتدينين، ومن المحافظين على التقاليد، وكذلك من الذين لا ينتمون الى الحداثة في شيء، من: الأميين، والمعتنقين لمذاهب دينية وثنية، والمعتقدين بالخرافات..الخ. والحكم بالحداثة انما يشمل الاتجاه العام في المجتمع والدولة، وليس الافراد الذين تظل نسبتهم قليلة مهما يكثر عددهم. وقد قيل عن الحداثة: ان لها ـ بأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية ـ وجها مشرقا نتطلع اليه، وجانبا مظلما نتجاهله. وان ما هو ايجابي وتقدمي نهضوي في الحداثة هو الذي اُبرز على مدى عقود مضت، لكن التعتيم على الجوانب السلبية للظاهرة نفسها اصبح الآن غير مقبول. وقد نظر الى سلبيات الحداثة في المجتمع والافكار والقيم خلال عقود التنمية في العالم الثالث. والعالم العربي منه. في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، على انها مشكلات انتقالية ستتغلب عليها المجتمعات التقليدية في مسيرتها التاريخية نحو الحداثة، ومن هنا جاء هذا الاندفاع نحو التقدم و(المعاصرة)، بسبب رؤية متكاملة للحداثة تتجاهل ما هو مضر وسيئ منها. ويسمى هذا النمط من التفكير القائم على مفهوم الفردية الفكر الرأسمالي، وهو فكر لا ينكر حتى اشد انصاره المساوئ التي افضى اليها، وقد دفعت تلك المساوئ بآخرين الى نظرية جديدة جاءت رد فعل على مثالب الفكر الرأسمالي، هي النظرية الشيوعية، ومن يمعن النظر في الفكر الشيوعي يجد ان اصحابه قلبوا المفاهيم الرأسمالية، فذهبوا من اقصى اليمين الى اقصى اليسار، نزعوا وسائل الانتاج من يد الفرد ليضعوها في يد الدولة، وحولوا المجتمع الى حالة المركزية الشديدة، وحرموا الفرد من ابسط حقوقه ومقومات انسانيته، فجردوه من الحرية، ومن الملكية التي تكفل له حقا خاصا في أي امر حتى في اولاده.
وكان اهم عنصر من عناصر الحداثة تعرض لاعادة النظر فيه هو العلمانية، ومن هنا انتهى بعضهم الى القول انه: «على عكس ما كان يتصور انصار الحداثة الغربية، من ان مشروعها الحضاري، الذي يقوم على الفردية والعقلانية والوضعية والعلم والتكنولوجيا، سيؤدي بالتدريج الى تهميش الدين واحتلاله موقعا ثانويا في المجتمع الحديث، فإن وقائع العقود الماضية، وما نراه من عودة للمقدس في الوقت الراهن تشير الى سقوط نبوءة انصار الحداثة».
ومثلما بولغ في علمانية الحداثة، كذلك بولغ في رد الفعل والعودة الى الدين: فظهرت في عدد من البلاد حركات دينية تقوم على الغلو والتعصب وسوء الفهم للدين وللكتب المقدسة، مثل: الجماعات المسيحية اليهودية، او الصهيونية عند الانجيليين، خاصة في الولايات المتحدة، ومثل اعمال الارهاب بين الكاثوليك والبروتستانت في ايرلندا الشمالية، ومثل قيام دولة عنصرية دينية على اساس من اساطير بعض الكتب الدينية المحرفة ونبوءاتها، وربما كان اوضح مثال على ذلك دولة اسرائيل في فلسطين المحتلة.
فما هو موقف الاسلام من كل ما تقدم؟ وكيف يكون الاسلام في مواجهة الحداثة الشاملة؟ وللاجابة عن هذين السؤالين اللذين يكادان يكونان سؤالا واحدا، لا بد لنا من ان نعود بذاكرتنا الى عصور ازدهار العلم الاسلامي، وانتشار الحضارة الاسلامية، وحركتهما في التوسع والتأثير في اوروبا، خاصة منذ القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، وما تلاه من عصور حتى القرن العاشر الهجري (السادس عشر الميلادي). وهو ما اشرنا الى طرف منه عند حديثنا قبل صفحات عن حركات الاصلاح الديني المسيحي في اوروبا، وسنعود اليه بعد قليل. وربما كانت اوضح السبل الى تلمس الاجابة عن السؤالين السابقين ان نقف عند كل عنصر من عناصر الحداثة لنتحدث عن موقف الاسلام منه وعلاقة المسلمين به.
فالعنصر الاول، وهو حرية التفكير والتعبير، وحرية البحث و«الشك فيما هو قائم واعادة التساؤل فيما هو مسلَّم به»، عنصر يتضمن مبادئ قررها الاسلام تقريرا واضحا لا لبس فيه، وسار على هديها العلماء والمفكرون المسلمون. وحسبنا ان نشير في هذا المجال الى ان الاسلام قد اباح حرية الخطأ، وجعلها حقا من حقوق المسلمين في بحثهم عن الحقيقة، اذا خلصت نياتهم وكان الحق رائدهم ولم يتعمدوا ذلك الخطأ للتضليل. ومن هنا كان دعاء المسلمين: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) («البقرة: 286»)، وقوله تعالى: «وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما» («الاحزاب: 5»)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ان الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان».
ولم يقتصر الاسلام على التجاوز عن خطأ المخطئ والصفح عنه، انما كتب له الحسنة والثواب حين يخطئ وهو يبحث عن الحق ويطلب العلم، فجعل له حينئذ أجرا واحدا وجعل للمصيب أجرين. وتدخل في هذا الباب آيات التسخير المتعددة في كتاب الله تعالى، واجمعها واشملها قوله تعالى: «وسخر لكم ما في السموات وما في الارض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون» (الجاثية: 13)، وهكذا انطلق علماء المسلمين (يتفكرون) و(يتدبرون) دون ما حرج ولا تزمت، لا يحول بينهم وبين ميدان من ميادين العلم حائل.
اما موضوع (الشك فيما هو قائم واعادة التساؤل فيما هو مسلّم به)، فالفكر الاسلامي حافل بما يدل على انه الرائد في هذا المضمار، وقد كان من منهج العلماء المسلمين الشك في الامور الى ان يقوم الدليل على صحتها او بطلانها. ومن امثلة ذلك ما نص عليه الجاحظ ـ بعد ان ذكر خبرا غريبا ـ قال: «ولم اكتب هذا لتُقِرَّ به، ولكنها رواية احببت ان تسمعها. ولا يعجبني الاقرار بهذا الخبر، وكذلك لا يعجبني الانكار له، ولكن ليكن قلبك الى انكاره اميل، وبعد هذا فاعرف مواضع الشك، وحالاتها الموجبة له، لتعرف بها مواضع اليقين والحالات الموجبة له. وتعلم الشك في المشكوك فيه تعلما، فلو لم يكن في ذلك الا تعرف التوقف ثم التثبت، لقد كان ذلك مما يحتاج اليه». اما العنصر الثاني ـ الذي اشرنا اليه ـ من عناصر الحداثة ومقوماتها، وهو تحكيم العقل في كل ما يتصل بالانسان وكل ما يعرض له، فما اكثر الدعوة اليه في كتاب الله وفي احاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، وعند علمائنا ومفكرينا، وهو مبثوث في أمهات كتبنا. وقد عدّ العلامة الباكستاني الدكتور محمد عباس عبد السلام رحمه الله تعالى (الحائز جائزة نوبل في علوم الطبيعة) سبعمائة وخمسين آية في القرآن الكريم، هي في صميمها حث للمسلم على التأمل في الطبيعة واستعمال العقل لفهمها واستعمال المهارة لتسخيرها.
وقد تكررت في القرآن آيات تحض على العقل وتنتهي بقوله تعالى: (.. أفلا تعقلون) و (.. لعلكم تعقلون) و (... إن كنتم تعقلون) و (... لقوم يعقلون)، او ما يتصل بذلك من الفاظ العقل.
وكذلك تكررت فيه آيات تدعو الى التفكير، وتنتهي بقوله تعالى: (لعلكم تتفكرون) و(أفلا تتفكرون) و (لقوم يتفكرون).
وآيات اخرى فيها الفاظ متعددة تدل على معاني العقل والفكر، مثل التدبر «أفلم يدبروا القول» (المؤمنون: 68) و«ليدبروا آياته» (ص: 29)، ومثل: النظر «أو لم ينظروا في ملكوت السموات والأرض» (الاعراف: 185).
و «أفلم ينظروا الى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها» (ق: 6)، و«أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت» (الغاشية: 17). ومثل لفظ البصر وما اشتق منه كقوله تعالى: «وفي انفسكم أفلا تبصرون» (الذاريات: 21) الى غير ذلك من آيات صريحة اللفظ أو صريحة المعنى، مما هو مبثوث في كتاب الله، وربما كان اشملها واجمعها قوله تعالى: «كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة» (البقرة: 219 ـ 220).
وحين ننظر بعد ذلك الى اقوال بعض العلماء والأدباء والمفكرين المسلمين، نجدهم كثيرا ما يعولون على العقل ويدعون اليه، فمن ذلك قول الجاحظ: «فلا تذهب الى ما تُريك العين، واذهب الى ما يُريك العقل، وللأمور حُكمان: حكم ظاهر للحواس، وحكم باطن للعقول، والعقل هو الحجّة». والحديث عن العقل وتحكيمه متصل أوثق اتصال بحديثنا السابق عن الشك وعدم التسليم بأقوال العلماء السابقين دون تمحيص، وهو ايضا متصل أوثق اتصال بما حث عليه الاسلام من نبذ الخرافات والاساطير. ويدسّ بعضهم تعبيرات ماكرة كقولهم: (ثقافة الخرافة)، ويخلطون الكلام خلطا ليفهم ان المقصود بالخرافة انما هو الايمان بالغيب. وشتان ما هما وبُعْدَ ما بينهما.
واذا كان للخرافة (ثقافة) تشيع بين العوام الجهال، يخوضون فيها، وينخدعون بها، (مثل: الزار ودفوفه ورقصه، ومثل الحجب الباطلة وقراءة الكف والإخبار بالحظ والمستقبل، والتنجيم، وأحاديث السحر والجن والشياطين)، فإن الغيب ليس له ثقافة، وانما هو تصديق وايمان، دون الخوض في هذا الغيب ودون بناء ثقافة له: «وعنده مفاتيح الغيب لا يعلمها إلا هو» (الانعام: 59). «ولله غيب السموات والارض واليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون» (هود: 123).
وأما العنصر الثالث من عناصر الحداثة ومقوماتها، وهو عنصر (العلم) ومناهجه، فالحديث عنه في الاسلام ولدى المسلمين حديث طويل. وهؤلاء علماؤنا في مختلف ميادين العلم نجوم نيرات في سماء الحضارة الانسانية: في مرحلتها الاسلامية، ثم في تأثيرهم في عصر النهضة الاوروبية وعصر التنوير، وقد تُرْجِمت كتبهم الى اللغة اللاتينية، اما مباشرة واما من خلال العبرية. وفي طليعة هؤلاء العلماء المسلمين: جابر بن حيان (ت 200هـ ـ 815م)، الذي كانت له شهرة كبيرة عند الافرنج بما نقلوه من كتبه في بدء يقظتهم العلمية، قال عنه (برتلو) M. Berthelot: «لجابر في الكيمياء ما لارسطو طاليس قبله في المنطق. وهو اول من استخرج حامض الكبريتيك وسماه زيت الزاج، واول من اكتشف الصودا الكاوية، واول من استحضر ماء الذهب، وينسب اليه استحضار مركبات أخرى مثل كربونات البوتاسيوم وكربونات الصوديوم، وقد درس خصائص مركبات الزئبق واستحضرها».
وانما تكلفنا ما تكلفنا من اقتضاب القول في موضوع اختلف اصحابه فيه اختلافا واسعا، لنزيل عنه غموضه الذي خلفه عند كثير من أهله وعند اهلنا، وكان حقه التوسع فيه والبسط لولا ضيق المجال، ولنصل كذلك من كل ما قدمنا الى ان الاسلام ـ بالفهم الصحيح له ـ كانت (الحداثة) من بعض منهجه الشامل. وان العلماء المسلمين هم آباء (الحداثة) الاوروبية، بما نقلوه الى اوروبا من منهج يقوم على ما منحهم الاسلام من حرية التفكير والتعبير، والتجاوز عن الخطأ والسهو في البحث والاجتهاد، وبتسخيره لهم ما في السماوات والارض جميعا منه تعالى، وما حضهم عليه من التفكير والتدبر والنظر واستعمال العقل وتحكيمه، وهجر الخرافات والاساطير والأوهام والاباطيل، وبما يسر لهم من اساليب العلم ونظرياته وانجازاته، وبما دعاهم اليه من التعامل بالأسباب وتطوير الحياة وتقدمها، وبما هيأه لهم من تحرر الانسان من عبوديته للإنسان، وجعل العبودية لله وحده، بغير وسيلة بشرية تفصل بين الخالق والمخلوق وتتوسط بينهما، وبجعله كتابه الكريم ودينه مبسوطين للناس جميعا دونما احتكار لطبقة دون غيرها: تعدل فيهما وتغير، وتفسر وتشرح، وتمنح وتحرم.
فانطلق العلماء المسلمون يحملون مشاعل الهداية و(الحداثة) الحقيقية المؤمنة، التي تعرف ان وراء الاسباب مسببا ـ سبحانه ـ لا تعمل بغير ارادته، وانه استخلف الانسان في الارض لاصلاحها وعمارتها، واقامة العدل واشاعة الرحمة بين اهلها مهما تختلف اديانهم واعراقهم وألوانهم، وان الله رقيب على الناس في ما يعملون لا يغيب عنه مثقال ذرة، فعليهم مراقبته باتباع هذا المنهج الخلقي الايماني الذي تجردت منه (الحداثة) الاوروبية في مسيرتها التاريخية وتطورها الزمني. ولذلك احدث الاسلام التوازن بين الفرد والمجتمع، ونأى عن المادية المفرطة التي أدت الى الانانية والى غطرسة القوة الغاشمة، وجعل الحرية والعقل والعلم والتقدم تنطلق كلها في فلك اخلاقي اطاره قوله تعالى: «تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الارض ولا فسادا والعاقبة للمتقين» (القصص: 83)، وقوله تعالى: «وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الاثم والعدوان» (المائدة: 2)، وقوله تعالى: «ولا تبخسوا الناس اشياءهم ولا تعثوا في الارض مفسدين* واتقوا الذي خلقكم والجبلة الأولين» (الشعراء: 183 ـ 184) الى غيرها من الآيات التي ترسم هذا المنهج القرآني.
ولا تستطيع أمة ان ترتقي في معارج التقدم، وان تحقق لنفسها نهضة وتبني حضارة بغير (الحداثة) بعناصرها التي ذكرناها. وبمثل ذلك تقدم المسلمون وشادوا حضارتهم الشامخة، وحين تخلوا عن (الحداثة)، واقتبستها منهم اوروبا، تخلفوا وتقدمت.
فبغير حرية الرأي والتعبير، وحرية الاجتهاد والبحث العلمي، واستعمال العقل والاحتكام اليه، واستخدام العلم ومنهجه وتطبيقاته وتطويرها، تظل الأمة تدور حول نفسها حتى يصيبها الوهن.
وهكذا فإن الاسلام سابق المسلمين الحاليين منذ تخليهم عن جوهره، وان اردنا ان نتمسك به فعلينا ان نتقدم نحوه لأنه أمامنا، تفصلنا عن حقيقته اشواط، فهو حديث دائما، عصري دائما، واكثرنا لا يكاد يعرف منه ولا عنه إلا مظاهر العبادات.
وخلاصة كل ما تقدم ان الاسلام ليس (في مواجهة الحداثة) الصحيحة، بل هي منه في صميم منهجه، وقد اخذتها منه اوروبا، فأفادت منها كثيرا، ووصلت بها الى هذه المرحلة الباذخة من الحضارة، ثم ما لبثت ان اقحمت عليها ما ليس منها وجعلته شرطا لها، وفرغت منها روحها وانسانيتها، فأصابتها بالجفاف، وطوحت بها وبأهلها في مهاوي الضياع، وعلينا نحن ان نستعيد حداثتنا فنزيل عنها ما اقحم عليها، ونرد اليها ما انتزع منها، وحينئذ نستأنف رسالتنا الحضارية للانسانية.
- وزير التعليم العالي الاسبق في الاردن