شكّل اجتماع مجلس الجبهة الديمقراطية للسلام والمساوة، المنعقد يوم السبت الفائت في مدينة شفاعمرو، علامة فارقة وحدثا متميّزًا، قد يصير مبتدأً يجيز لنا أن نعقد عليه آمالًا سياسيةً كبيرة، إذاما تلته أخبار وتداعيات بحجم التحدي.
لقد انتخب أعضاء المؤتمر القطري للجبهة قائمة مرشّحين واعدة، شابة، مقنعه وتعكس روحًا جديدةً، سيكون لها دور أساسي في بلورة أجندات العمل الوطني والنضال الشعبي للأقلية العربية في البلاد في السنوات القادمة.
ولادة تلك القائمة لم تكن يسيرة، كما كنت أتمنى أن تكون، وعلى الرغم ممّا رافقها من مخاضات، تبقى تفاصيلها شاهدةً على نضج من شارك في يوم الانتخابات، ودليلًا على استشعار أعضائها جسامة ما تقف أمامه الجبهة من تحديات ومسؤوليات، وفهمهم لحقيقة كون تنظيمهم هو الأعرق وطنيًا، والمتصدر دومًا جميع الميادين الكفاحية، ونضالات هذه الجماهير في صراعها الطويل من أجل البقاء والحياة الكريمة.
لست عضوًا منظمًا في حزب أو حركة سياسية، ولكنني شعرت بقسط كبير من الراحة والاطمئنان عند متابعتي لمجريات ذلك الاجتماع، حيث تجلّت فيه روح المنافسة الحيوية، وتجلّى إصرار المتنافسين على خوض معركة نزيهة، وإن كانت قاسية، فهذا عمّاد للقيادة وشرط للصدارة الواعية، وشاهدنا، كذلك، كيف شارك مئات الأعضاء، رجالًا ونساء، في صنع القرار، بحرية حمراء، كما يتمناها كل انسان عاقل ومؤمن بأن المستقبل لا يكتبه عبيد، ولا تخطّه ذيول.
أمام أيمن عودة، المنتخب لرئاسة قائمة الجبهة وسكرتيرها الحالي، مهام صعبة وطريق طويل، وهو بحاجة لدعم جميع القوى من رفاقه في الجبهة والحزب الشيوعي. فلقد كشفت معركة انتخابات المجالس البلدية والمحلية الأخيرة، تراجع دور الجبهة بشكل موجع وفقدان وزنها العام الذي كان راجحًا لعقود، وذلك برسم ما خسرته من مواقع في العشرات من المدن والبلدات العربية، بعدما كانت التصدّعات في جدرانها واضحةً وباديةً لكل قريب وبعيد.
لن ينجح الفريق المنتخب إذا لم يسانده جيل القادة السابقين بما كسبوه من تجربة ودراية، ولكن الأهم سيبقى، برأيي، معقودًا على ما سينجزه قادة المستقبل المنتخبون، على الصعيدين النظري والتنظيمي، وليدركوا؛ أنّ من حماه حضن العاصفة، يجب أن لا يرضى إلا بالقمة منزلًا وبالكرامة إكليلًا.
ما يثير بتفاصيل ما حدث في انتخابات الجبهة، لا يقتصر على ما جاءت به النتائج من تغيير جذري في قيادات الصف الأول، وهو ما يحمل مؤشرات ثورية إلى حد بعيد، بل أن ذلك حصل في مناخ عام تسوده عناصر وقيم تستقي قوتها من منابع تقليدية رجعية. ففي مجتمعاتنا العربية يتعاظم، منذ سنوات، تأثير ما حاولت الجبهات عند تأسيسها، في أواسط السبعينيات من القرن الماضي، محاربته والقضاء عليه؛ دور الحمولة والعائلة والديانة والمصلحة الشخصية.
هذا الحراك الجبهوي الهام يحمل بشائر ما هو كامن في مجتمعنا من خير وعناصر لن ترضى بإعادتنا إلى سنوات "السفربرلك" وضنك مخاتير "أبا حوشي ويدين" وصحبهم، لكنّه، بالمقابل، قد يبقى مجرد زفرة أطلقها جسد متعب سيتغلب عليه صدأ الأيام وكثرة الأعداء.
أكتب مقالتي وجميع الأخبار العربية تطمئن الشعب بأن القائمة المشتركة أصبحت في حكم المؤكّد، خصوصًا وقد اتفق الفرقاء الأربعة على ترتيب المقاعد الأحد عشر الأولى وأوكلوا ترتيب المقاعد التالية لأعضاء لجنة الوفاق بعد أن تعهد الجميع بقبول ما ستحكم به هذه اللجنة فلا راد لخياراتها.
عن رأيي في خيار القائمة الواحدة بهذه الأساليب والغرف، كتبت في الماضي، واليوم أخشى أن هذه القائمة ستكون أول حاجز يمنع تطوير تجربة الجبهة وتحويلها إلى عملية تغيير متواصلة تستهدف توسيع قواعد الجبهات وترميم أبنيتها المحلية والقطرية وتدعيمها بالنظرية السليمة والبرامج النضالية المعصرنة والملائمة لطبيعة المرحلة والظروف. فالموافقة على طريقة بناء هذه القائمة المشتركة يتعارض مع "ثورية" ما جرى في اجتماع الجبهة الأخير ويتعارض كذلك مع أحزاب وحركات تدعي كونها أحزابًا طليعية ثورية.
الاتفاق على إقامة قائمة واحدة من دون الاتفاق على مبادئ سياسية يجتمع عليها الحلفاء، ومن دون وضع برامج عمل نضالية يتفق عليها الفرقاء، لن يجلب لفضائنا سوى جسم توأم للجنة المتابعة العليا التي تحولت، باسم وحدة الاخوة الأعداء والسلام بين الفرقاء الأضداد، إلى خيمة للتوافق والتصالح الأجوفين من كل مضمون ومردود جوهريين. ومع ما أكنّه لأعضاء لجنة الوفاق من احترام وتقدير، إلّا أنهم تدخلوا لرأب صدع مستحيل بمعطياته الموضوعية، ولذلك نجدهم يعملون في ظروف عبثية، لا تترك لهم هوامش إلا كما تقتضي الحاجة الوطنية غير المعرّفة بالأصل، والمختلف عليها بين من سيدخلون خيمة النصر على نسبة الحسم، وليأت بعدها الطوفان!
كثيرون استنجدوا ورددوا حتى الملل، ما قالته العرب عن شيخها الذي أوصى أولاده وهو يحتضر بأن يبقوا معًا، واستعرض أمامهم كيف تأبى العصي إذا اجتمعن تكسرًا، لكنني أشعر بما زرعته هذه الأجواء من قيود وتوقعات وهمية، غير صحّية على المدى البعيد. تصرفات القادة العرب جاءت أقرب لردّات فعل، فاجأ فاعله به قومًا وهم غافلون، فصحوا على هدير أقدامهم وهم يتدافعون. فإذا صدقت تطمينات المبشرين بالوحدة سيكون السؤال الأهم، برأيي، ماذا بعد هذه الوحدة؟
لأنها، كما أتوقع ستفضي إلى واحد من خيارين؛ فإما أن يبقى الفرقاء المنتخبون للكنيست القادمة موحدّين في قائمة واحدة، وعندها لن يقدّم وجودهم للجماهير العربية أكثر مما قدمته لجنة المتابعة العليا!
وإمّا أن تتبلور ثلاث كتل منفصلة تعمل كل واحدة حسب مصلحتها ومفهومها الخاص لقضايا الوطن وغيره، وساعتها سنعرف، نحن الناخبين، كم كنا واهمين وحالمين ومغفلين. وأن الوحدة عندما لا تكون على أسس سليمة هي خيارات الضعفاء غير الجاهزين، فالعرب روت ، كذلك، عن شيخها أنه مات بعد أن جمع رزمةً من العيدان وقدمها لابنه البكر القوي الحكيم المجرب، وطلب منه أن يحاول كسرها ومراده تعليم أولاده أن العصيُّ "تأبى إذا اجتمعن تكسرا". أخذ الابن الرزمة، تفحصها بدقة، مسكها بحرفة، وبعزيمة أحاطها بكفيه وشد فكسرها أمام دهشة إخوانه.
نظر إليه الشيخ باسمًا، وقال: الآن سأمضي، وأنا مرتاح، فبينكم، يا أولادي من سيحميكم ويصون مستقبلكم. لقد كان هذا الولد من أحفاد أبي الطيب ومنه تعلّم أن: "على قدر أهل العزم تأتي العزائم".. والبقية بعد الوحدة.