في تعامل الإعلام الإلكترونيّ السوريّ مع خبر استغاثة جميلة بو حيرد بالشعب الجزائريّ، لقلّة مواردها الماليّة، وضرورة إجراء عمليّاتٍ جراحيّةٍ مكلفةٍ و عاجلةٍ لها، وفي محاولةٍ مني لفهم هذا التجاهل، عللت ذلك بالأطر الخشبيّة التي كرّسها الإعلام الرسميّ، الذي شكّل مدرسةً خرّجت الإعلاميين (الإلكترونيين). ثمّ أضفتُ، وفي مسعىً مني لتبديد غموض تجاهل ذاك الخبر المهمّ؛ أنّ محرّري و رؤساء تحرير المواقع الإخباريّة السوريّة مشغولون عن هذه الأخبار ومضامينها ومدلولاتها بحساب عدد (النقرات) أو الدخولات إلى مواقعهم كي تأتيهم الإعلانات و المعلنون وأموالهم، فعدت وقلتُ: لا أعتقد أن هذا هو السبب، إذ لو نشروا الخبر فسوف يسهم في رفع تصنيفهم على موقع (أليكسا). ثمّ ذهبت بي الظنون و التخمينات إلى اعتباراتٍ سياسيّةٍ، تتعلّق بالتزام هذه المواقع عدم التشويش على العلاقات السياسيّة بين الحكومتين السوريّة و الجزائريّة، وسرعان ما تبدّد هذا التعليل حين ربطت تاريخ المناضلة بوحيرد بالتوجّهات السياسيّة الرسميّة المعلنة المتمثّلة بدعم المقاومة ورموزها، و الصبغة القوميّة للفكر و السياسة السوريين، واستذكرت أنّ السيّد رئيس الجمهوريّة منح المناضلة موضوع الخبر ( المهمّ ـ المهمل) وسام الاستحقاق السوريّ من الدرجة الممتازة، ولهذا تبعاتٌ قيميّةٌ وأخلاقيّةٌ، تفرض على هذه المواقع بثّ الخبر، وإعطاءه ما يستحقّ من الأهمية، أو على الأقل؛ ذات الأهمّيّة المعطاة لخبرٍ تصدّر أحد هذه المواقع عنوانه (عرّافٌ تونسيٌّ يتنبّأ باغتيال نصر الله). استذكرت كلّ ما يخصّ جوهر وظيفة الإعلام، ومعاييره، لجهة المهنيّة و الصدق و الموضوعيّة ونقل الحقيقة، وملاحقة الحدث، فماذا كانت النتيجة برأيكم؟ أترك الإجابة لحصافتكم. أسعفتني ابنتي (في الصف الخامس) بالإجابة، وقالت: ـ بابا، منذ فترةٍ كنت تناقش أمي بكتابٍ يتحدّث عن الكذب، أليس كذباً عدم ذكر الحقيقة؟ شكراً لابنتي، وذاكرتها، و استحضارها أفكار الدكتور محمد مهدي علام، في كتابه (فلسفة الكذب) الصادر عام /1933/ الذي عرض فيه لآراء علماء البلاغة في تعريف الخبر بأنّه: (ما احتمل الصدق و الكذب)، وبيّن أنّ ملخّص نظرتهم يرجع إلى الآراء التالية: 1ـ أن الصدق هو ما طابق الواقع، ولو خالف الاعتقاد. 2ـ أن الصدق هو ما طابق الواقع و الاعتقاد. 3ـ أن الصدق هو ما طابق الاعتقاد، و لو خالف الواقع. وفي أنواع الكذب، قسّمه الدكتور علام إلى تسعةٍ، هي: (المبالغة في النقل وزخرفة القول، و الاقتصار على بعض الحقيقة، و النفاق، و الملق، وخلف الوعد، والتحفّظ و التعمية، و الافتخار و الادعاء، وأشنعها شهادة الزور، و الافتراء). وكما تلاحظون، برغم عدم وجود إعلامٍ إلكترونيٍّ عام /1933/ سنة إصدار الكتاب، ينطبق تصنيف الدكتور علام لأحد أنواع الكذب (التحفّظ و التعمية) على عدم ذكر الخبر، أو تجاهله، و الإعراض عنه، بغضّ النظر عن الأسباب، حتى لو كانت حفظ ماء وجه هذه المواقع الإخباريّة الكبرى (من حيث عدد الدخولات وليس من حيث المضمون الإعلاميّ) أقصد بحفظ ماء الوجه، تبرير ما لا يبرّر، وهو التغاضي عن الخبر كي لا يظهر تأخّرها في ذكره، وتحليله، وتسليط الضوء عليه، كما يسلّط الضوء على العرّاف التونسي الذي يتنبأ باغتيال ـ لا سمح الله ـ السيد حسن نصر الله . تعود ابنتي (في الصفّ الخامس) لتملأ الفراغ الذي كان من المفترض أن تملأه المواقع الإخباريّة (الكبرى)، كما ملأت الحركات الإسلاميّة الفراغ السياسيّ الناجم عن تضاؤل تأثير الأحزاب القوميّة و اليساريّة و العلمانيّة، فتقول: ـ بابا، قد يكونون (المواقع الإخباريّة السوريّة) ضدّ جميلة بوحيرد لأنهم لا يريدون تشويه إنجازات الحكومة الجزائريّة في المجال الرياضيّ، بتأهّل المنتخب الجزائريّ على حساب مصر إلى كأس العالم. تحرّيت الأمر، و على الفيسبوك، ثمّة من اتهم جميلة بو حيرد (بالعمالة) لمصر، لا حظوا!! ليس لإسرائيل، بل لمصر. المحكوم عليها بالإعدام من قبل الفرنسيين عام 1957، و الرافضة لأموالٍ خليجيةٍ تداويها، و التي أبت قبول عرضٍ فرنسيٍّ لعلاجها قائلةً: (كيف أعالج بأموال دولةٍ حاربتها؟) و التي تقول في رسالتها: "إلى السيد رئيس جزائر أردتُها مستقلة سيدي، أسمح لنفسي بلفت انتباهك إلى وضعيتي الحرجة، فتقاعدي ومعاشي الضئيل الذي أتقاضاه بسبب حرب التحرير لا يسمحان لي بالعيش الكريم، وكل من البقال والجزار والمحلات التي أتسوق بها يمكن لهم أن يشهدوا على القروض التي يمنحونها لي. ولم أتخيل يوما أن أعزز مداخيلي بطرق غير شرعية أصبحت للأسف منتشرة في بلدي أنا أعلم أن بعض المجاهدين الحقيقيين والمجاهدات يعيشون نفس وضعيتي، بل أسوأ منها، وأنا لم أقصد تمثيلهم بهذه الرسالة، ولكن من خلال موقعكم لا تستطيعون ولا تريدون معرفة فقرهم وحاجتهم هؤلاء الإخوة والأخوات المعروفين بنزاهتهم لم يستفيدوا من شيء، والرواتب التي تمنح لهم لا تتجاوز المستحقات التي تمنح عامة لنواب المجلس الشعبي الوطني ومجلس الأمة، وكذا ما تتقاضونه أنتم وكل الذين يحومون حولكم. وبناء على هذا، أطلب منكم أن تتوقفوا عن إهانتنا وعليكم أن تراجعوا معاشنا الضئيل، وذلك حتى نُكمل الوقت القليل المتبقي لنا في هذه الحياة بما يتناسب مع الحد الأدنى من الكرامة. مع تحياتي الوطنية جميلة بوحيرد الجزائر في 09 ديسمبر 2009". هذه؛ عميلةٌ لمصر. الفقيرة، المريضة، الرافضة لأموالٍ غير أموال الشعب الجزائريّ؛ عميلةٌ، لمصر، رياضياً. وكأنّ منهج قياس المسافات بالغرام و الأوزان بالمتر صار معمّماً، فتتستخدم المعايير الرياضيّة لتأسيس أو نسف علاقاتٍ (حضاريّة ـ سياسيّة)، وتغدو هي الأساس، تماماً كما حاول البعض إشاعة موقف مضادٍّ من المقاومة (العسكريّة ـ السياسيّة) في جنوب لبنان، سنداً لمقاييس طائفيّة. وهذا منهجٌ، يفيد في (عدد الدخولات) إلى المواقع، فيرتفع تصنيفها على أليكسا، ما يزيد من شهيّة المعلنين و (كرمهم)، فالغريزة الطائفيّة و شقيقتها الرياضيّةُ، مدرّتان للنقرات على الماوس، وهو ما تعجز عنه سبلٌ أخرى، ضنينةٌ بالنقر الماوسيّ المقدّس. مرّةً أخيرةً، تضيء ابنتي (في الصفّ الخامس) ما عجزت عن إضاءته المواقع الإخباريّة (الكبرى)، وتقول: بما أنها عجوزٌ، ومريضةٌ، فإنّ رسالتها وصيّةٌ، وليست استغاثةً. يبدو أنّ نبوءة العرّاف التونسي باغتيالٍ ما تحقّقت، لكن مع تغييرٍ بسيطٍ، في اسم المغتال، وفي الجهة (الجهات) التي نفذت هذا الاغتيال.... هكذا قالت ابنتي.
حسان محمد محمود، (جميلة بو حيرد و وقاحة الكذب وفلسفة التزوير)