كلّما أقرأ عن “عملية مسلّحة”، دارت رحاها في إحدى قرانا أو حاراتنا، أتمتم: هنيئًا لك يا نهر، ها هم الحفّارون يهيّئون لك جداول الدم الطاهر وطين هوية المستقبل!
كلّما أقرأ عن جريمة قتل يتيمة، سجّلت في حق “مجهول” أقول: هنيئًا لك يا أيها الموت العاهر! فلك ما لنا ولك الكتائب والمجاهدون، بناة العزة/الوهم وحماة الشرف المخبئ في شقوق أكعابهم/حوافرهم، أسياد التخلف والرياء، كهنة بابل والربع الخالي. أغرف حتى البطر أو، يا ليت، حتى التعب!.
وكلما ذبحت زهرة وبقر بطنها “مأمور الشرف” وسيّد العفة، لأنها خانت الرواية وما عادت تحتمل عتمة خوابي الزيت القديمة، أبكي على ماضٍ دفنوه حيّا في باحات بيوتهم وقصورهم وخيَمهم، وعلى حاضرٍ نسي المولّدون قطع حبل سرّته فبات طُرحًا مشوّهًا ناقص السمع أعشى البصر. حاضر برجالٍ عقولهم بين أرجلهم ورجولتهم “تتعنطز”على حافة شواربهم المنتصبة، علماء بالادّعاء وفقهاء بالتشاوف والدم عندهم أرخص من “عفطة عنز”.
عشر نساء ذبحن في عام واحد. أضاف عليهن كهنة الموت واللعن ست نساء، حصاد هذا العام غير المنتهي. بعد كل عملية قتل ترتفع صرخات، بالعادة تجيء هذه من مؤسسات مدنية تعنى بشؤون النساء ومشاكلهن الحياتية والمعيشية. هكذا كان وهذا ما جرى في الأسبوع المنصرم بعد اكتشاف جثمان الضحية الأخيرة. مؤسسات وجمعيات اجتمعت وحررت بيان الغضب والتنديد وأطلقت نداءات الاستغاثة والمروءة والنجدة.
العنف المتفشي في مجتمعاتنا هو آفة، إهمال دراستها بشكل علمي ومنهجي ومسؤول هو جريمة بحد ذاتها. الدولة ومؤسساتها تبقى المسؤولة الأولى والأهم ولكنها ليست الوحيدة.
كتبت وكتب غيري في هذا المضمار، ولكنني أكتب اليوم عن جرائم الاعتداء والعنف بحق النساء وأكثر عن جرائم قتلهن بادعاءات واهية تتغلَّف بالشرف والعفة وهي من هذا براء.
الجرائم في حق النساء هي بمعظمها وليدة مجتمعاتنا وثقافتنا وقيمنا. لا أعتقد أننا نجيد خيارًا إذا أحلنا، كما نبرع دائمًا، مسؤولية هذه الظاهرة المأساوية وألحقناها بالدولة الصهيونية وسياساتها العنصرية الجهنمية للنيل من مجتمعنا وضربه!.
على الرجال أن يعلوا أصواتهم في حق هذه الجرائم. لا يعقل أن تبقى النساء ومؤسساتهن المدنية في صدارة الكفاح ومقاومة هذه الظاهرة/الآفة. بعض الأصوات الصادرة عن رجال ومؤسسات قيادية، حزبية وبلدية واجتماعية، لا تكفي من حيث أعدادها ومن حيث زخمها ومثابرتها ووضوح قولها وفصلها. الأهم، باعتقادي، أن هؤلاء يكتفون بالتنديد والشجب والاستنكار ولا يخوضون، أو يحاولون الخوض، في مسببات هذه الآفة. هنا، أعتقد، أن إمكانيات التوصل المدروس والعلمي، لأسباب وجذور هذه الظاهرة، أوفر من دراسة ظاهرة العنف وتفشيها بشكل عام وشامل.
القصة تبدأ في البيت. كيف نفرح لمولودنا الذكر ونندب حظ الأنثيين! القصة تبدأ في البيت. وكيف نضيء شموع الفخر والاعتزاز برجولة أطفالنا، فنحثّهم ليستعرضوا ذكاءهم الخارق ويدلوا على “حماماتهم”، موطئ الرجولة وضمان المستقبل. بينما لا نتوقف عن كيل التنبيهات والإرشاد والتعنيف إذا قفزت بنت وبان طرف فخذها أو إذا تحركت ولم تحافظ على التصاق الساق بالساق، هنا الطامة كبرى وهي، هذه المسكينة الغضة الطفلة، على حافة ارتكاب الرذيلة والسقوط في المعصية!. هكذا وهن في عمر براعم اللوز والفل، فلك أن تتصور، أيّها القارئ، ما حالهن إن تكعّب صدر أو نهد، وإن ماس قدّ وجاد عنق! إنهن عالات ومناجم قلق، زواجهن سترة وملاذ، يجب التحرز عليهن وسترهن فحتى إن أبلين بلاء الوطن وجب التعذر، فالحسناء رفعت حجابها لأن الرجال غابت وفرّت!.
إنه البيت. إنّها الحارة وأبوابها. إنّها المدرسة. إنّها العائلة. إنّها الكنيسة. إنّه المسجد. إنه نحن، المجتمع. إنّها تربية وثقافة وموروث.
معايير كثيرة تغيّرت وقيَم تبدلت. آفاق شُقّت وولجتها فتيات ونساء. لم تعد أحوال نساء اليوم كما أحوال نساء الماضي. ما تغيّر هام وضروري، لكنٌه غير كافٍ. المشكلة أن بعض مفاهيم الأساس ما زالت سائدة ومهيمنة في مجتمعاتنا. بعض من “مساطر” القياس والحكم والتفصيل البائدة ما زالت في أيدي بعض أقوياء المجتمع، رجاله/ذكوره.
على النساء أن يستمررن بكفاحهن وعلى مؤسسات المجتمع أن تنضم إليهن. على مؤسساتنا القيادية أن تقيم أيام نقاشات شاملة تخصص لهذه الظاهرة، مسبباتها وإمكانيات التصدي لها.
ما الذي يمنع لجنة المتابعة العليا من تبني مثل هذه المسألة ومتابعتها؟ على كل من يستطيع التأثير من خلال منصة متاحة له أو منبر يقف عليه أن يتبنى إثارة هذه المسألة بشكل مباشر واضح وحازم. في مدارسنا يجب أن تخصص ساعات وحصص ومربون أكفاء ومؤهلون للحديث عن هذه الآفة. كذلك أقترح أن يتبنى الكهنة والأئمة هذه القضية ويخصصوا لها عظات وعظات، فلهم يسمعون وإيّاهم يقتدون.
لن أفيَ، مهما أزيد وأكتب، حق هذا الموضوع ولكنني أضم صوتي لكل صراخ ضحية ذبحت على مذبح التخلف والقهر والهزيمة. أضم صرختي إلى كل من تصرخ ويصرخ في وجه هذه الأشباح الواهمة بأنّها تدافع عن شرف عائلة وقبيلة وقوم.
شرفنا بكرامتنا وحريتنا وتقدمنا وعلمنا واحترام ذواتنا واحترام الآخرين. لم يكن يومًا بين أرجل حرائرنا ولن يبقى على ما انتصب من شوارب أو ذيول أحلام مخفقة!.
فليفعل كل واحد منا ما يستطيع، علّنا نبني معًا مستقبلنا الآخر. وهذا لن يكون إلّا إذا قبلنا مشتهيات الفراش، عرائس الخيال الجامح، شريكات درب وحياة ونضال. معهن الحياة أجمل.
(كفرياسيف