نعيش اليوم حياة تتسم بالسرعة ، فنحن – كما يقولون – نعيش في عصر السرعة . و نسمع بين الفينة و الأخرى عن اختراعات في مجالات عدة ، ميزتها الأساسية اختصار الوقت ، و هذا شيئ جيد و مطلوب و لكن بشرط عدم الضرر ، كأن تكون لهذا الاختراع آثار سلبية على الصحة مثلا .
و لكن هناك مجالات لا تصلح معها السرعة ، بل و من الخطأ الفادح أن نتعامل معها بسرعة ، و أهمها مجال التربية ، فالتغيير الإنساني يحتاج إلى وقت و جهد كبيرين ، و الأبحاث و الدراسات في هذا المجال تستغرق من أصحابها سنوات عديدة.
يقول الأستاذ عبد الرحمن عبد الخالق : ... نقول لهؤلاء المستعجلين ، هل تظنون أن التربية كالصناعة المادية ، حيث تضع الخامة من المعدن أو القطن أو الصوف في جانب ، لنتلقاها في جانب آخر سيارة و ثلاجة و قماشا ؟؟ هذا خطأ كبير ، لأن التربية الإنسانية الفعلية بطيئة بطء النمو الجسماني ، فتربية الأفكار و العقائد و آداب السلوك يحتاج من الزمن ما يحتاجه النمو الجسماني و أكثر .
أيها المسلمون ، لقد مكث النبي – عليه الصلاة و السلام – بعد بعثته ثلاثة عشر عاما في مكة يربي أصحابه – رضي الله عنهم - ، و يرسخ فيهم العقيدة الصحيحة ، و التي هي أساس البنيان ، فطهرت القلوب و العقول ، و سمت الأرواح ، فجاء مجتمع المدينة مجتمعا فريدا من نوعه ، لأن الذي بناه جيل فريد ، تربى على يد خير خلق الله أجمعين ، و هو خير مرب ، و خير قدوة –عليه الصلاة و السلام - ، و بهذه العقيدة الصحيحة ، و بهذا الإيمان اليقظ ، استقام المسلمون على أمر الله .
و نحن اليوم نفتقر إلى هذه التربية الإيمانية ، و حياتنا أصبحت عن ترقيعات لا أكثر ، نركز على جانب و ننسى جوانب ، نهتم بالفروع و نهمل الأساس ، مع أن الإسلام نظام يشمل جميع جوانب الحياة ، من القاعدة و حتى القمة ، فالأمر ليس تعديل هنا و ترقيع هناك ، بل لابد من الاهتمام أولا بالتأسيس الصحيح حتى يكون البنيان متينا ، فلو كانت الجذور سليمة خرج النبات طيبا ، و لكن لو كانت الجذور متعفنة ، خرج النبات نكدا ، و ليس من الحكمة تلميع ورقة نبات مريض ، و لكن الحكمة هي علاج أساس المرض ، و اقتلاعه من جذوره . قال إياس بن معاوية : إن الشيئ إذا بني على عوج لم يكد يعتدل .
ثم إننا لن نلفت الأنظار إلى روعة ديننا إذا بقي الأمر مجرد ترقيعات . يقول سيد قطب – يرحمه الله - : إن النفس البشرية فيها الاستعداد للانتقال الكامل من حياة إلى حياة ، و ذلك قد يكون أيسر عليها من التعديلات الجزئية في أحيان كثيرة ، و الانتقال الكامل من نظام حياة إلى نظام آخر أعلى منه و أكمل و أنظف انتقال له ما يبرره في منطق النفس ، و لكن ما الذي يبرر الانتقال من نظام الجاهلية إلى نظام الإسلام إذا كان النظام الإسلامي لا يزيد إلا تغييرا طفيفا هنا ، و تعديلا طفيفا هناك؟.
أيها الإخوة ، إن التربية المنشودة ليست دروسا تلقى و حسب ، و ليست دورة هنا و دورة هناك ، أو ندوة على إحدى الفضائيات ، أو برنامجا إذاعيا ، فهذه كلها ليست سوى وسائل للثقافة العامة ، كالسنوات التي يقضيها الطلاب في المدارس ، فهم يقضون أربعة عشر عاما تقريبا من عمرهم الذهبي في تحصيل رؤوس أقلام ، و ليتهم يحصلون على علم ديني أو معرفي يتناسب مع هذه السنوات الطويلة التي يقضونها في مدارسهم !! .
أعود فأقول أن التربية المنشودة هي – و كما يقول الشيخ محمد الغزالي يرحمه الله - ، جو يصنع ، و إيحاء يغزو الأرواح باليقين الحي ، و العزيمة الصادقة . و هذا لن يتأتى إلا بقدوات حية ، فالتربية بالقدوة من أقوى أساليب التربية .
و ربما لو تكاتفت و اتحدت جهود المعلمين و المربين ، و الأئمة و الخطباء ، في المدارس و الجامعات ، و المساجد ، و مراكز تحفيظ القرآن ، و غيرهم ممن يطمحون إلى تحقيق التربية الإيمانية الصحيحة ، فوضعوا المناهج ، و رسموا الخطط ، و عادت حلق العلم في المساجد ، فربما بهذا نصل أو نقترب من الغاية المنشودة ، فتجميع الطاقات خير من تبعثرها ، و اتحاد الكلمة خير من تشتتها .
فرب صغير قوم علموه * سما و حمى المسومة العرابا و كان لقومه نفعا و فخرا و لو تركوه كان أذى و عابا فعلم ما استطعت لعل جيلا سيأتي يحدث العجب العجابا