لو كنت صاحب القرار والقول الفصل لما قررتُ الشروع في إضراب مفتوح عن الطعام كالذي أعلنته فئات واسعة من أسرى الحرية القابعين في سجون الاحتلال، في ظروف قمع وتنكيل تتطاول من يوم إلى يوم وتستدعي، بلا شك، تحرّكًا استثنائيًا من الحركة الأسيرة ذاتها ومن عمقها الفلسطيني الأرحب والشامل.
هنالك من شكّك في النوايا الحقيقية لدى بعض الإخوة من دعاة البدء في إضراب شامل عن الطعام يوم 17.4.2012 وهو يوم الأسير الفلسطيني. إضراب بدوافع سياسية لكنّه غلّف بعناوين مطلبية، هكذا كان الهمس وفي بعض الأحيان جاء على صورة تحفّظات خجولة. هذه الأصوات تدّعي أن الإخوة في حركة حماس يعيشون حالة حرج كبيرة ويعانون من أزمة في السياسة وفي المقاومة، هوامش نشاطهم السياسي والشعبي تراجعت بشكل ملحوظ في الضفة الغربية وذلك لعدة أسباب، منها أسباب ذاتية، كتوقف الحركة عن أعمال المقاومة المسلحة والميدانية التي ميّزتها لفترة من الزمن عن باقي الفصائل لا سيّما "فتح"، حسبما درجت حركة حماس على الادعاء والتفاخر به. وأسباب خارجية، كتضييق مساحات العمل المسموحة لها والحد من نشاطاتها الجماهيرية والشعبية. من زاوية حُشرت فيها حماس تحركت عناصرها ودفعت من أجل إضراب عنوانه مطلبي (وقف سياسة العزل والسماح لعائلات غزة بزيارة أبنائها) وحقيقته سياسية ويمكِّن الحركة من العمل الشعبي دون أن تتعرض عناصرها للملاحقة. من جهة أخرى، وبالتوازي، يجب أن نضيف بعض العوامل العامة كممارسات سلطة مصلحة السجون وتماديها في قمع الحركة الأسيرة وسحبها للعديد من حقوق الأسرى بشكل أدّى إلى خلخلة خطيرة فيما كان سائدًا وما أسمّيه بحالة من "التوازن المرغوب"، وكذلك حالة الركود السياسي العام وانسداد آفاق إحراز أي تقدم سياسي في المدى المنظور، ركود عكّر صفوه وقضّ رتابته خضر عدنان أبن حركة الجهاد الإسلامي، حركة فلسطينية منافسة، وتلته هناء الشلبي، رفيقة خضر في الهم والراية والتحدي.
من الجائز أن يكون التشخيص المذكور أعلاه صائبًا ودقيقًا، لكن ليس ذلك ما كان سيجعلني لا أعلن الإضراب كما قلت. كما وأنني أعتقد، أن مثل هذه الادعاءات كانت يجب أن توضع بكل شفافيّة وأمانة على طاولة جميع المسؤولين في الحركة الأسيرة، لتقييمها وبحثها وأخذها كعامل يدرج مع مجمل ما تدارسته قيادات الحركة قبل اتّخاذ قرار الإضراب.
وعود على بدء، علينا أن نتذكّر، أنّ الإضراب أعلن في مناخ، محلٌي ودولي، استقطبت فيه الحركة الأسيرة بشكل عام وقضية الاعتقال الإداري بشكل خاص، اهتمامًا واسعًا واستجلبت حزمة من التصريحات الشاجبة لسياسة إسرائيل في هذا المضمار، وبعض الأصوات طالبت إسرائيل بالتوقف عن ممارساتها واعتقالاتها الإدارية، (لم ينحصر الشجب والانتقاد في أوساط ومؤسسات حقوقية عالمية إنّما تعداها وربما للمرة الأولى، لتصريح من أشتون وبان كي مون وغيرهما من الساسة والبرلمانيين).
وللتذكير، أيضًا، (ولدى البعض كان ذلك مدعاة للقلق والغيرة!) فلقد كانت المبادرة للأسير المحرر خضر عدنان الذي سطَّر موقفًا إنسانيًا فريدًا وسجّل سابقةً نضالية فلسطينية وعالمية يفتخر بها كل حر. بعده جاءت الأسيرة المحرّرة هناء الشلبي لتجعل من خضر بداية، نهاياتها ما زالت تتوالد في مخاضات عسيرة يكابدها أسرى إداريون مضربون لأكثر من خمسين يومًا ويواجهون خطر الموت في كل لحظة (ثائر حلاحلة، بلال ذياب، حسن الصفدي، عمر أبو شلال، جعفر عز الدين). لهذا، كنت وما زلت على رأي يقضي بوجوب استنفاد هذه التجربة حتى تبان النهاية أو تصل إلى حد يستوجب القفز إلى مساحة أخرى من شأن الإضراب فيها ومن أجلها أن يدعم ما جني من تجربة خضر عدنان ورفاقه أو أن يضيف وزنًا ومردودًا لنضالات الحركة الأسيرة. (لا سيما وأن هناك تخوّفًا أن تضيع قضية الإداريين المضربين في خضم الحدث العام!).
للحقيقة هنالك نقاشات حادة وكثيرة داخل الحركة الأسيرة، وللحقيقة أيضًا أقول أن هذه الحركة اليوم ليست في حقبتها الذهبية ولا تقترب من ذلك. لن أعالج أسباب هذا الضعف والوهن ولكنني أكتفي بأن أشير إلى ما كانت عليه هذه الحركة يوم كانت سدًا منيعًا ومركز إشعاع وإلهام لجميع فصائل وفيالق الشعب، وكانت ضابط الإيقاع لنبض الشارع الفلسطيني الحر والوطني والمقاوم. واليوم، لأسفي، تحوّلت إلى مرايا تعكس انكسارات وشظايا الحالة الفلسطينية العاجزة المريضة، حركة يصعب الرهان عليها ولكنني لن أتخلى، ففي النهاية لا مفر، فإما الوحدة والصمود والتحدي وإمّا الذل والمهانة والتشظّي.
ولأنني لست صاحب القرار والقول الفصل، ولأن الإضراب أعلن وشمل مئات من أسرى يمثّلون جميع الفصائل الفلسطينية، ولأنه يرفع مطالب عادلة وصادقة، قبلتُه وتعايشت معه، كمحام وكابن لنادي الأسير الفلسطيني، فلن نقف إلّا إلى جانب من قرر تحدي عسف سلطة السجون وتنكيلها.
لا أعتقد أن الانضمام الكامل للإضراب شأن مصيري، ولكن على جميع الأسرى أن يجدوا طرق التضامن والتكافل والدعم لرفد كل ذلك في مسار نهر الحركة الأسيرة الذي يجب أن يبقى هدّارًا كما كان.
لدينا ألف سبب للبكاء ولدينا كل دواعي "الاستعرار الجمعي" فلا تستكثروا علينا ابن شعبي، قبل أن يكون ابن جهاد، فهو وإن اختلفتُ معه على قافية القصيد ووزن النشيد، زوّدني بقصيدة رفعت بها رأسي بين الأمم.
"الانقسام والجحود سيّدا الموقف" قالها من أمضى نصف عمره على زند وعد!، ربع قرن مضى منذ كان شابًا على حافة الطريق يربي الأمل فخانته الأحلام والليالي. "وليد" وفي كل يوم يولد من جديد لأن الحياة علمته كيف ينام على تهليلة قلب. "هذا الإضراب يا أستاذ سيكون دمارًا وسيسبب لنا الخسائر، فكيف لنا أن ننتصر ونحن ألف خنجر وسيف؟ لكنّني حين يُنفخ بالبوق ويدق الجرس سأكون هناك، فنحن إخوة في الدمع وشركاء في رحلة السراب، نحن "نواطير الحياة" قالها وليد ومضى إلى زنزانته/ وطنه.