الطيب ولد العروسي
أحيي الدكتورة كفاح درويش على مقالها المنشور في جريدة 'القدس العربي' بتاريخ 17 ايار/مايو 2011، بعنوان 'العالم العربي: أزمة قراءة أم أزمة كتاب وقلة إنتاج؟' والذي تطرقت فيه إلى غياب القراءة في العالم العربي، التي أعتبرها شخصيا ـ مثل الدكتورة - مسألة إستراتيجية وأساسية في بلورة الوعي والدفاع عن الهوية الحضارية والفكرية والثقافية، وبالتالي عن تواجد الذات، وتحقيق التطلعات وكسب الرهانات في الألفية الثالثة.
أشارت الدكتورة، من ضمن ما تطرقت إليه، إلى المكتبات في العالم العربي، وهنا تجدر الإشارة إلى أن ما يطلق عليه في عالمنا العربي، مكتبات، هو في الحقيقة مجرد مستودعات ليس إلا، توضع فيها الكتب دون مراعاة أدنى وأبسط المعطيات العلمية والمهنية، أو لنقل ما هي إلا مجرد فضاءات للمطالعة، لا غير، لأنه لا توجد أي خطة عربية حقيقية للنهوض بالمكتبات في عالمنا العربي وجعلها منارات ثقافية علمية لها دورها المهم في توعية الناس وفي بلورة القراءة لديهم، وتقوم بمهمتها كفضاء ثقافي حيوي ويومي، مبني على احترام القواعد المهنية ومتسلح بالمقاييس الدولية العلمية .
عندما يتجول الإنسان في عواصم الغرب، يجد أن المسافة ما بين المكتبة والأخرى لا تتعدى نصف كيلومتر، فمثلا في باريس توجد أكثر من مائتي مكتبة، بلدية وعامة ومتخصصة ووطنية، وأن المواطن يستطيع أن يستعير أي كتاب يريد في أي منطقة من مناطق باريس العشرين، وإن يكن الكتاب الذي يبحث عنه غير موجود، يكفي أن يلفت نظر أمين المكتبة حتى يوفره للقراء في عدة ساعات.
والواقع أنه بالإضافة إلى وجود مكتبات للأطفال في مختلف الأعمار: الحضانة، الابتدائي، الإعدادي، الثانوي، ثم الجامعي، علاوة على وجود مكتبة الأسرة والمكتبات العامة، دون أن ننسى اهتمام العائلة بالكتب وبتخصيص مكان لهم، وأن الطفل يقرأ له أولياؤه الكتب وهو في سنته الأولى، كما تجتمع الأسرة على طاولة الأكل يتكلم الأب والأم عن آخر كتاب قرؤوه، فيما يسأل الطفل عن الكتاب الذي ينوي قراءته أو الذي بصدد مطالعته.
هكذا خطّط الغربيون للقراءة وأعطوها كل الإمكانيات للنهوض بشعوبهم في هذا المجال، وخلقوا تقليدا رائعا، لأنهم جعلوا من القراءة واجبا مقدسا، إذ راحوا يحرضون على القراءة بشكل مدروس وواع، الشيء الذي جعلها تتصدر برامج انتخابات كل مسؤول سياسي مهما كانت درجة مسؤولياته، من رئيس البلدية (العمدة) إلى رئيس الجمهورية. وهنا أريد أن أعطي مثلا ملموسا، يتعلق بوصول الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران إلى سدة الحكم عام 1981، كان لديه 110 اقتراحات من ضمنها مجموعة اقتراحات مهمة تخص مجال الثقافة، مثل الإذاعات الحوارية أو الحرة، والعمل على إنجاز سبعة مشاريع ثقافية، نذكر منها على سبيل المثال أوبرا باستيل، المكتبة الوطنية الفرنسية، أقصد المبنى الجديد، التي تحمل اسمه الآن، معهد العالم العربي، متحف العلوم لا فيلات، هرم متحف اللوفر، وغيرها، وكلها ذات علاقة بالمعرفة والثقافة.
فأين برامج المسؤولين العرب في هذا المجال؟ وماذا عملوا للثقافة؟ وهل قرؤوا أو يقرؤون ويناقشون، على الأقل، تقارير التنمية سواء التي تصدرها منظمة اليونسكو مرة كل سنة، أو الأمم المتحدة؟ أو حتى الدراسات التي تقدم في بعض الجامعات العربية؟ وهل لديهم إستراتيجية منسقة للنهوض بالإنسان العربي؟ وهل لديهم نية في أن يبنوا له مراكز ثقافية حقيقية تبدأ من ورشة الأطفال وهم بعد صغار إلى الجامعات؟.
إذا أردنا أن نجيب على هذه الأسئلة انطلاقا من الواقع العربي، فنحن نرى أن آخر شيء يهتم به في العالم العربي هو القراءة، والدليل على ذلك، انه يكفي الاطلاع على تقرير التنمية البشرية لعام 2010، حيث نرى بأن الإنسان العربي يقرأ بـ'معدل ست دقائق في السنة، بينما المواطن الغربي يقرأ 12 ألف دقيقة'. وأن أهم قطاع تنفق فيه الحكومات العربية ويخوّلها المرتبة الأولى على مستوى العالم 'هو التسلح' أما في مجال العلوم فهي 'لا تخرّج سوى 373 باحثاً لكل مليون نسمة، علماً بأن العدد المتوسط على المستوى العالمي يبلغ 1081 باحثا' مما يجعل الإنفاق على البحث العلمي في الوطن العربي يحتل أدنى مرتبة في العالم، وأن العالم العربي بدوله الـ 22 ينشر حوالي 1700 عنوان في السنة، بينما أمريكا وحدها تنشر خمسة وثمانين ألف كتاب في السنة، بينما ما يترجم من وإلى اللغة العربية لا يتعدى 1 في المائة، في حين ما تترجمه كل من فرنسا وإيطاليا وألمانيا يتعدى 13 في المائة. أما التعامل مع التقنيات الحديثة فهو لا يتعدى 3 في المائة..
هذا دون أن ننسى بأن الطفل العربي يقرأ ما بين 6 و 12 سنة 30 كتابا، بينما تصل في البلدان المتقدمة إلى حدود 600 كتاب، وأن الكتاب يطالع في بلداننا حوالي 5 مرات في السنة، بينما يمكن أن يطالع على الأقل 300 مرة سنويا في الدول المتقدمة، لذلك تبيّن هذه المعطيات وغيرها مدى هشاشة القراءة والمطالعة في بلداننا
إجمالا تعتبر المكتبات في أوروبا ثالث فضاء يقصده المواطن بعد البيت والعمل، مما يدل على وجود إستراتيجية حقيقية للقضاء على الأمية والتحريض على القراءة في العالم المتقدم، بالإضافة إلى وجود الانترنت وكل الوسائل التقنية الحديثة.
ومن مشاهد التعلق بالقراءة ما يلاحظه الإنسان في وسائل النقل العمومية وإقبال المسافرين على القراءة، أو حين يذهب الإنسان إلى مكتبة بيع ليجد الناس تقتني الكتب وتقبل على شراء الجديد، ويوجد في كل سوق كبيرة فضاء لبيع الكتب يؤمه الناس من مختلف الشرائح الاجتماعية والثقافية، وأن الأولاد يرفضون التسوق مع أوليائهم ويفضلون البقاء في فضاء الكتب الخاصة بهم لكي يطالعوا الجديد.
وإذا كنا نعتبر أن المطالعة هي من ضرورات الحياة اليومية مثلها مثل الخبز والهواء والماء، فإنه من الصعب أن يتغاضى الإنسان عن مأساة الشعوب العربية التي إن واصلت على نفس الوتيرة فقد تصبح أمة لا تقرأ ولا تكتب. والحق يقال، إننا نصاب بالهول والصدمة والألم حينما نطلع على تقرير التنمية البشرية لهذه السنة، أو للأعوام الفارطة، وأنه ورغم قناعتنا الأكيدة بأن الغلطة الحقيقية ليست من الإنسان العربي، لأن لا أحد يحثه أو يحرضه على فعل القراءة والكتابة، ولا توجد فضاءات مناسبة لذلك، فأنا أرفض أن نتهمه، وأرى بأن هذه الأزمة سببها غياب نظرة حكيمة من قبل الحاكم العربي، الذي لا يولي للقراءة مكانتها وعمقها الحقيقي. أما في مجال المكتبات فالعالم العربي يعرف نقصا شديدا، وأن ما هو موجود يسيرونه أناس لا علاقة لهم لا بالكتاب ولا بالمكتبات، لأن المكتبة لم تعد تقتصر على توفير المحتويات المكتوبة فحسب، بل توزعت أنشطتها إلى مهام أخرى، مثل توفرها على فضاء للتقنيات الحديثة، وتنظيم اللقاءات الثقافية، ومعارض الكتب، والسهر على تنشيط فضاء للأطفال بتشجيعهم على الكتابة والقراءة والإبداع من خلال تنظيم ورش يستدعى فيها مبدعون ومبدعات، كما تساهم المكتبة في تعميق المعلومات وفي انتشار المعرفة، وتعد من بين أهم الفضاءات التي يلتقي فيها المواطنون من فئات اجتماعية وثقافية متنوعة. وعليه لا بد من إعادة النظر وبسرعة في دفع وإحياء المكتبات المدرسية في التعليم الأساسي بالخصوص، وتشجيع حصة المطالعة في المدارس العربية وتخصيص حصة لتوعية الأطفال بدور المكتبة، حتى يمكن غرس المطالعة في نفوس التلاميذ، لكي تصير مغروسة فيهم ولا تفارقهم طيلة حياتهم. كما يجب إعادة النظر أيضا إلى المكتبات الحالية ومراجعتها بشكل راديكالي، لأنها تعتبر من بين أهم المؤسسات المعنية بمهمة المطالعة، وذلك باعتبارها مؤسسات ديمقراطية للتربية والتثقيف، والإعلام والتوجيه، فهي المسؤولة قبل غيرها عن تنمية المهارات القرائية باعتمادها الرفوف المفتوحة وبتوفيرها لمجموعات من الكتب ومجموعة من الأنشطة الأخرى لتستجيب لأذواق مختلف الشرائح العمرية والمهنية والثقافية.